آخر الأخبار

Advertisement

مكانة مسرح الجريمة في التحقيق الجنائي - ذ/ فؤاد برامي - مجلة الباحث



ذ فؤاد برامي 
محامي متمرن بهيئة المحامين بمراكش - باحث
 في العلوم الجنائية

              مكانة مسرح الجريمة في التحقيق الجنائي

مقدمـة:

يشكل مسرح الجريمة نقطة انطلاق البحث والتحري، وأول محطة يسلكها المحقق بحثا عن الحقيقة الإجرامية، هذا الأخير الذي يستعين بجملة من الآليات، حيث يلجأ إلى الطب في التشريح وتحديد أسباب الوفاة وزمنها، وعلم البيولوجيا في التعرف على فصائل الدم والحمض النووي والبقع الدموية المختلفة، وعلم البصمات في التعرف على شخصية الفاعل، والعلوم الطبيعية والكيمياء في تحليل المواد العضوية وغيرها.

ويعزى أول توظيف لمصطلح مسرح الجريمة بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والهند، ثم وجد تطبيقات له في بعض الدول التي تأثرت بالنظام الأنجلوسكسوني ليستعمل في أوروبا.

وذهب بعض الفقه إلى تعريف مسرح الجريمة بأنها الرقعة المكانية التي عرفت الواقعة الإجرامية بكافة مراحلها وأحداثها وملابساتها[1]، وهذه الرقعة تنصرف إلى المكان والأمكنة الشاهدة على أطوار ومراحل ارتكاب و تنفيذ الجريمة، وتحتوي على الآثار الدالة على ارتكابها[2].

 وهناك من شبه مسرح الجريمة بأنه الشاهد الصامت الذي  يشمل المكان الذي ارتكب فيه الجاني جريمته والمكان الذي لجأ إليه للاختباء، ثم مختلف الأماكن التي أخفيت فيها أدوات الجريمة، والمكان الذي اختفى فيه بعد اقترافه الجريمة[3].

وفي هذا الإطار تكمن أهمية هذا الموضوع في كونه يشكل ملاذا لأجهزة البحث والتحري والتحقيق التي تحاول كشف تفاصيله ومسك خيوطه، حيث دفعت بالفكر الجنائي إلى الاهتمام به وإحاطته بعناية خاصة، من خلال تطوير وظائفه باعتماد أساليب علمية دقيقة تستنطق جزئياته والوقوف عند حيثياته وتشريحها بهدف الوصول إلى الغاية المنشودة المتمثلة في الحصول على  دليل الإثبات الجنائي.

وفي سبيل التأكيد على أهمية الموضوع فإنه من الضرورة بمكان طرح الإشكال التالي: مدى أهمية مسرح الجريمة في المساعدة على كشف معالم الجريمة، ومدى شرعيته وقيمته في الإثبات الجنائي.

لمعالجة هذا الإشكال تقتضي اعتماد المنهج الوصفي التحليلي، من خلال وصف مختلف الأساليب والطرق المتبعة من قبل المتدخلين في عملية البحث الجنائي في مسرح الجريمة والتي توصل بدورها إلى كشف الغموض والحقائق عن الجرائم، وتحليل الإجراءات المتخذة للحفاظ على مسرح الجريمة وتحصينه.

وفي هذا السياق سنقوم بتقسيم الموضوع إلى مبحثين، يتمحور المبحث الأول حول دور مسرح الجريمة في جمع الآثار والتثبت من الجرائم، في حين سنقوم بتخصيص المبحث الثاني لنظام التعامل مع مسرح الجريمة.

المبحث الأول: دور مسرح الجريمة في جمع الآثار و التثبت من الجرائم

يشكل مسرح الجريمة نقطة ارتكاز أولى لانطلاق الأبحاث والتحريات، مع ما يتطلب ذلك من سرعة بديهية ورد فعل فوري حتى لا تندثر الآثار أو يتم طمسها، فهو الفضاء الذي يشهد على وقوع الجريمة وتفاصيلها ومراحل ارتكابها، وتزداد أهميته باعتباره الوسط الحيوي الوحيد الشاهد على ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة.

ومن أجل تيسير فهم مسرح الجريمة، يقتضي منا الأمر أولا الوقوف على طبيعته القانونية من خلال تعريفه وتحديد أنواعه وإبراز أهميته في البحث والتحري، وهو ما سوف نعالجه في المطلب الأول. ثم البحث في الآثار المادية لمسرح الجريمة وهو ما سوف يكون موضوع المطلب الثاني.

المطلب الأول: ماهية مسرح الجريمة و حدوده

 يأخذ مسرح الجريمة مجموعة من الأبعاد ويظهر في عدة تمظهرات بحسب كيفية ونوعية ومكان وزمان ارتكاب الجريمة، وبالتالي فإنه يتضمن مؤشرات مهمة تفيد أجهزة البحث والتحري في فك ألغاز الأفعال الإجرامية وضبط مرتكبيها.

وبالنظر إلى هذا التنوع الذي يطبع مسرح الجريمة فإنه يتعين أولا الوقوف على ماهيته وسبر أغواره وهو ما سيكون موضوع الفقرة الأولى، وإبراز مدى حدود جدواه وهو ما سنقف عليه في الفقرة الثانية.

الفقرة الأولى: ماهية مسرح الجريمة

للإحاطة بمفهوم مسرح الجريمة، سوف نأخذ ببعض التعريفات التي تناولته أولا، على أن ننتقل لنبين مختلف أنواعه ثانيا.

أولا: تعريف مسرح الجريمة

تناول الفقه الجنائي مسرح الجريمة، وانتهى إلى تعريفه وتحديد ماهيته ومختلف تمظهراته وتجلياته، فمصطلح مسرح الجريمة كان يدل على النطاق الجغرافي الذي وقعت فيه الجريمة ومختلف أحداثها القابلة للمعاينة والملاحظة والتثبت، أو ما اصطلح عليه في القانون الإيطالي بالملاحظة القضائية المباشرة[4].

فبعض الفقه يعرف مسرح الجريمة بأنه هو المكان الذي يضم معظم الآثار، ويمنح الباحث الجنائي الخيوط الأولى في البحث عن الجاني ويكشف النقاب عن الأدلة المؤيدة للاتهام، فهو المكان الذي يتيح إعادة تصوير الجريمة مرة ثانية وتمثيل أحداثها كما وقعت[5].

وهناك من يقول بأن مسرح الجريمة هو المكان الذي حدث فيه تنفيذ الجريمة والذي يشهد احتكاك الجاني بمحتوى سطحها المادي سواء كان هذا المحتوى شخصا أو شيئا[6].

ثانيا: أشكال مسرح الجريمة

يتخذ مسرح الجريمة أشكالا وتمظهرات كثيرة، فقد يكون مفتوحا ومكشوفا كأي مكان عمومي أو خاليا مثلا، وقد يكون مغلقا كأي مبنى منزل أو مكتب وما يدخل في حكمه، وقد يكون متحركا كناقلة أو عربة أو ما شابه ذلك، فكل نوع من هذه الأنواع يفرض أسلوبا وتعاملا خاصا بغية استخلاص الدليل المطلوب وفق إجراءات معيارية وعلمية دقيقة بهدف كشف الحقيقة الإجرامية المتمثلة في التثبت من ظروف ارتكاب الجريمة وإسنادها إلى المتهم.

بناء على ذلك تتعدد أشكال مسرح الجريمة، إلا أنه يمكن حصرها في أربعة أنواع:

1: مسرح الجريمة المفتوح

مسرح الجريمة المفتوح هو ذلك المكان المترامي المكشوف كالحقول والحدائق والشوارع والطرقات والساحات العامة والشواطئ وغيرها، وسمي كذلك لأن هويته تتحدد خارج الأماكن المبنية وكل ما من شأنه الإحاطة بالمكان و جعله مخفيا محاطا بحدود مشيدة ونحوها كالدور المعدة للسكنى والمصانع ونحوها. ويدخل في حكمها كل مكان أو فضاء لا يمكن إغلاقه أو التحكم فيه، أي كل مكان لا تحده أسوار و جدران[7].

بحكم الطبيعة الجغرافية لمسرح الجريمة المفتوح، فإنه يتميز بمجموعة من الخصائص عن غيره من أشكال المسارح الأخرى، تسعف في تتبع آثار الجاني أو الجناة باستعمال الملاحظة والتتبع الممكن إجمالها فيما يلي[8]:

ـ الإسعاف في تحديد مكان ارتكاب الجريمة من خلال تتبع الآثار والأمارات الدالة عليها وفحصها، التي تدل على كيفية اقترافها و يكون ناطقا بها و يكشفها للمحققين.

ـ تحديد السبل التي سلكها الجاني أو الجناة أثناء ارتكابهم للجريمة، التي يمكن تتبعها لاقتفاء آثارهم وتحديد موقعهم لإيقافهم، كآثار السير أو إطارات السيارات على الأرض.

ـ كشف العلاقة الرابطة بين الجاني والجريمة من جهة، وبينه وبين الضحية من جهة أخرى، مما يساعد في تكوين القناعات الأولى لدى المحقق عن ظروف ارتكاب الجريمة عن طريق الإكراه والعنف، أو الاستدراج و التحايل مثلا.

وعموما فإن مسرح الجريمة المفتوح، يتطلب تعاملا يقظا وحذرا وسرعة بديهية وانتقالا فوريا مخافة اندثار الأدلة وطمسها، لأنه مفتوح لعامة الناس وقد تعبت الأيادي بآثاره. كما أنه معرض للتقلبات المناخية كالرياح والأمطار وأشعة الشمس التي قد تؤثر على أدلة الجريمة وتفقدها طراوتها وأهميتها في الإثبات والاكتشاف ونسبت الجريمة إلى الجاني. ومن ثمة فإن السرعة أو الفورية مطلوبة في الانتقال لمسرح الجريمة المفتوح، فعامل الزمن حاسم في جمع الأدلة والتمكن والتثبت منها.

2: مسرح الجريمة المغلق

عكس مسرح الجريمة المفتوح الذي يبقى منفتحا على العموم، فإن مسرح الجريمة المغلق يتميز بخصوصية غاية في الأهمية تتمثل في انغلاقه وعدم انفتاحه على العامة إلا المقربين من محيط الجريمة مما تتقوى معه مؤشرات تسييج ظروفها وشروط ارتكابها والاهتداء إلى فاعلها، ومن أمثلة مسرح الجريمة المغلق الأماكن السكنية والمباني الصناعية والأسواق التجارية وكل الأماكن التي يمكن السيطرة عليها والتحكم فيها بإغلاقها[9].

وعلى غرار مسرح الجريمة المفتوح، يؤشر نظيره المغلق على مجموعة من المميزات والخصائص، تتمثل فيما يلي:

ـ حصر جغرافية مكان البحث عن الآثار والتحري عنها، حيث يتم تفحص المداخل والأبواب والنوافذ، للوقوف على كيفية ولوجها والأدوات المستعملة في ذلك.

ـ تحديد زمن ارتكاب الجريمة من خلال فحص الآثار العالقة بالمكان وبالتالي تحديد وقت اقترافها.

ـ الوقوف على عدد الجناة في حالة تعددهم والأفعال التي ارتكبها كل واحد منهم لإتمام مشروعهم الإجرامي.

إن الفرق بين مسرح الجريمة المفتوح ومثيله المغلق وما يتميز به كل واحد منهما من خصائص ينبني عن مؤشرات يعتمدها علماء الإجرام في تحديد شخصيات المجرمين وخطورتهم الإجرامية، وقياس ذكائهم الإجرامي، لأن المجرم الذي يتجرأ على اقتحام الأماكن المغلقة والتي قد تكون آهلة بالناس يكون أشد خطورة ممن يرتكب جريمته في الخلاء متواريا عن الأنظار.

3: مسرح الجريمة المتحرك

قد ترتكب الجريمة في مكانها الرئيسي ثم ينقل الشيء المعتدى عليه أو أداة ارتكابها إلى مكان أو أمكنة أخرى، أي أن السلوك الإجرامي يتوزع على أكثر من مكان في إطار أنشطة متسلسلة مرتبطة فيما بينها ارتباطا بنيويا وعضويا، يجب تتبعها لضبط تمثلاتها وسيناريوهات ها المحتملة والممكنة.

هذا التوجه يفترض وجود مسرح رئيسي لارتكاب الجريمة وهو الذي شهد أطوارها الأولى، ومسارح فرعية امتدت إليها بعض أنشطة الجاني أو الجناة تضافرت مع المسرح الرئيسي لتشكيل ظروفها وملابساتها العامة[10]. وبالتالي فإن بين هذه الأنواع من المسارح يؤشر على حركتها التي قد تقع في فترات متقاطعة ومتقاربة في الزمن، تتطلب من المحقق تتبعها وضبط مسارها بهدف الحصول على الأدلة التي يسعى إليها.

4: مسرح الجريمة المائي

قد يحدث أحيانا أن يتدخل الماء مع اليابسة في ارتكاب الجريمة، كأن ترتكب الجريمة في مسرح مفتوح أو مغلق أو متحرك، ويتم رمي جثة الضحية أو أداة ارتكابها في فضاء مائي، وقد ترتكب الجريمة ذاتها في الماء كإغراق المجني عليه وإزهاق روحه في مسبح مائي. كأن يتم إثقال الجثة بمادة صلبة لمنعها من أن تطفو فوق سطح الماء[11] . أو رميها في قعر بئر لطمس معالمها.

لاشك أن أساليب البحث والتحري تختلف بحسب نوعية مسرح الجريمة، وتحتاج إلى توظيف مواد وأدوات تقنية وفنية وخبرات واختصاصات معينة بهدف الإحاطة الشاملة بأدلة الإثبات التي هي غاية المحققين، ومن ثمة تتضح الأهمية البالغة لمسرح الجريمة الذي تنطلق منه الأبحاث والتحريات لكشف خيوط الجريمة والوصول إلى الحقيقة.

الفقرة الثانية: حدود مسرح الجريمة في البحث و التحري

حدود مسرح الجريمة من المسائل المهمة التي تخضع لسلطة أجهزة التحقيق التي تتولى البحث في المكان المؤطر للسلوك الإجرامي الشاهد على ارتكابه، إضافة إلى امتداد نشاط المحقق وانصرافه إلى الحيز الزمني أي وقت وساعة ارتكاب الجريمة.

 فنطاق مسرح الجريمة، يتجاذبه بعدان: بعد مكاني وبعد زماني.

أولا: البعد المكاني لمسرح الجريمة

 استقر الفكر القانوني والفقه الجنائي على أن مسرح الجريمة يحوي الآثار الدالة عليها التي تلهم فرق البحث والتحقيق في صناعة أدلة الإثبات المادية. غير أن هذا المكان قد لا يأخذ بعدا واحدا بل قد يشمل أمكنة متعددة أحيانا تتجاوز جغرافية البلد الواحد كما هو الشأن للجرائم العابرة للقارات كجرائم المخدرات وجرائم تبييض الأموال والجرائم الإرهابية.

 فمكان ارتكاب الجريمة ليس محددا في حصرها في نطاق معين لمباشرة إجراءات وعمليات البحث والتحري فحسب، بل إنه يرتب آثارا قانونية ترسم حدود الاختصاص المكاني وحدود السلطات الممنوحة للمحقق الجنائي في حالة التلبس بالجريمة[12].

ثانيا: البعد الزمني لمسرح الجريمة

 هناك علاقة جدلية تربط النطاق الزمني بالنطاق المكاني، حيث يتكاملان في الأدوار ويندمجان لتقوية فرص اكتشاف أدلة الإثبات بنسبة كبيرة، فالنطاق الزمني أحيانا يكون حاسما وغاية في الأهمية، لذلك نجد التشريعات الجنائية المختلفة تنص على الحيز الزمني بين ارتكاب الجريمة واكتشافها ودور المحقق في الانتقال الفوري إلى مسرحها.

فالانتقال الفوري إلى مكان ارتكاب الجريمة هو أول إجراء يتم مباشرة بعد الإخبار بوقوعها بهدف ضبط معالمها وظروف ارتكابها والحفاظ على أدلتها القابلة للاندثار وكل ما يمكن أن يساعد على إظهار الحقيقة، وحجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في اقترافها أو التي هي معدة لذلك، وجميع ما قد يكون ناتجا عن الجريمة. فالغاية من عنصري الاستعجال والفورية في الانتقال لمكان حدوث الجريمة تكمن في التثبت من وقائعها كاملة والحفاظ على أوصافها ومعالمها قبل أن تندثر وتختفي ويتم طمسها[13].

هذا التوجه هو ما كرسه المشرع المغربي بتنصيصه في المادة 57 من ق م ج في فقرتها الأولى بأنه:" يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي أشعر بحالة التلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة فورا وأن ينتقل في الحال إلى مكان ارتكابها وإجراء المعاينات المفيدة".

فالانتقال الفوري ينسجم مع حالة التلبس بالجريمة الذي يعتبر حالة ممتازة ودليلا واضحا على مخالفة القانون تتطلب إجراءات سريعة وتدخلا فوريا بجمع الأدلة والقيام بالتحريات الضرورية المستعجلة لاستجماع عناصر الجريمة والحيلولة دون اندثارها أو ضياعها.

 فعامل الزمن شرط أساسي و حاسم في تحقق حالة التلبس بالجريمة و هو ما نصت عليه صراحة المادة 56 من ق م ج التي نصت على أنه:" تتحقق حالة التلبس الجناية أو الجنحة:

ـ إذا ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة أو على إثر ارتكابها.

ـ إذا كان الفاعل مازال مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكابها.

ـ إذا وجد الفاعل بعد مرور وقت قصير على ارتكاب الفعل، حاملا أسلحة أو أشياء يستدل معها أنه شارك في الفعل الإجرامي ووجد عليه أثرها أو علامات تثبت هذه المشاركة..."

 المطلب الثاني: الآثار المادية للجريمة

تبعا لنظرية التفاعل بين الجاني والضحية ومسرح الجريمة، فلابد أن يأخذ كل واحد من هذه العناصر من الآخر، وبالتالي يترك آثاره التي يكون مكان الجريمة مسرحا لها، مما يتعين معه حسن التعامل معها واستنباطها حتى يكون دليلا شاهدا على ارتكاب الجريمة وكشف معالمها وإيقاف مرتكبيها.

 وتتنوع آثار الجريمة وتأخذ أشكال متعددة تتطلب تعاملا خاصا بحسب نوعيتها، وسنقف على تحديد نوعين من هذه الآثار على سبيل المثال.

الفقرة الأولى: آثار الآلات

تعرف آثار الآلات بالجروح والثنايا التي تحدثها الآلة باحتكاكها بجسم الإنسان عن طريق الاعتداء عليه بواسطة إحدى الوسائل المادية التي تدخل ضمن مفهوم السلاح الأبيض، و كذا الآلات التي يتم اعتمادها في ارتكاب الجريمة كفتح قفل باب منزل أو إلحاق خسائر مادية مثلا.

 وتتجلى أهمية هذا النوع من الآثار في كونها تسعف الباحث أو المحقق في التعرف على الطبيعة المادية للآلة المستخدمة في ارتكاب الجريمة مما يساعد في طبيعة الفحص التي يجب أن ينصب على الآثار فور اكتشاف الجريمة خشية أن يصيبها الاندثار إما بعامل الطبيعة أو عن طريق الفعل البشري حيث غالبا ما يسعى الجاني إلى طمس معالم أفعاله الجرمية حتى لا تنتهي إليه أجهزة البحث والتحري.

وبعد جمع الآثار المترتبة عن الآلات المستعملة في ارتكاب الجريمة وجمعها وتصنيفها يتم قياسها مع طبيعة الأثر الذي خلفته المحاكاة مع جسم الجريمة ومضاهاتها بواسطة الميكروسكوب المقارن الذي يجب أن يشمل جميع الآثار وتحديد نوعها المتعلق بظروف وملابسات الحادث، ويمكن أن تتراوح قوة تكبير الأثر بين ثلاثين وأربعين مرة، وإذا ما تبين للفاحص أو اقتنع بتوافر نقط التشابه، فعليه أن يأخذ لها صورا لتكون دليلا يقدمه لفائدة البحث الجنائي[14].

الفقرة الثانية: آثار الأتربة

 يتنوع التراب بين الأمكنة ومحيطها بحسب البيئة المجالية، وقد تكون عبارة عن درات دقيقة تلتصق بجسم أو ما لبس الجاني جراء احتكاكه بمكان ارتكاب الجريمة، وقد تعلق به بسبب مزاولة مهامه في معمل أو مصنع مثلا، حيث تتطاير هذه الدرات في الجو وقد لا ترى بالعين المجردة وتعرف انسياب في تنقلها من مكان إلى آخر وتلصق بالملابس والأحذية والأدوات التي يحملها الإنسان، ويمكن مشاهدتها سابحة في الجو عن طريق شعاع ضوئي نافذا داخل حجرة مظلمة[15].

وتبعا لنوع التراب المحصل عليه يمكن تحديد نوعية مسرح الجريمة وصفة المعتدي، حيث بانتقال الجاني إلى مسرح الجريمة فإنه يحمل معه آثار أتربة المكان الذي يقيم فيه أو يعمل به حيث يترك هذا الأخير في محل الحادث عينة معينة من درات التراب التي يحملها معه، وقد يكون غير واع بها سواء على ملابسه أو حذائه أو المنقولات التي يقوم بسرقتها مما يسهل الاهتداء إليه بعد تحليل عينات منها ومضاهاتها بمثيلتها الموجودة بمحيط المجني عليه، فإذا تبث التماثل يتم مواجهة الجاني بها بهدف الوصول إلى الحقيقة الإجرامية.

المبحث الثاني: نطاق التعامل مع مسرح الجريمة

يكتسي مسرح الجريمة أهمية بالغة، تتجلى بمدى التوفق في الوصول إلى أدلة الإثبات وفك ألغاز الجريمة، وذلك متوقف على نجاعة الإجراءات والعمليات التي يقوم بها المحقق الجنائي ومدى استفادته من التعاطي والتعامل مع مسرح الجريمة وأجزائه ومكوناته.

 ومن أجل تدليل الصعاب التي قد تكتنف ارتكاب الجرائم ومرتكبها، يجب تتبع خطوات إجرائية رسم القانون حدودها وتطبيقاتها تمكن من التعامل بشكل علمي وفني مع الآثار التي يخلفها السلوك الإجرامي لمسرح الجريمة. ولهذا يكون لزاما على الباحث الجنائي القيام بنشاطين بمجرد علمه بوقوع الجريمة، وهما الانتقال الفوري لمسرحها، وهو ما سنتعرف عليه في المطلب الأول، والقيام بالمعاينات المفيدة لمحاصرة السلوك الإجرامي وجمع كل الأدلة الممكنة عنه في مطلب ثاني.

المطلب الأول: الانتقال إلى مسرح الجريمة

يعد الانتقال إلى مسرح الجريمة بشكل سريع أول إجراء يتم اللجوء إليه فور العلم بوقوع جريمة، حيث يغادر ضابط الشرطة القضائية المختص مكتبه إلى مكان ارتكاب الجريمة للشروع في أبحاثه في سبيل كشف وقائع الجريمة للوصول إلى الأدلة والبراهين الدالة عليها، ومن خلالها كشف هوية مرتكبيها.

فالانتقال إلى مسرح الجريمة من أوجب الواجبات الملقاة على عاتق ضابط الشرطة القضائية والالتزامات التي يجب أن يتقيد بها بمجرد إبلاغه بوقوع جريمة، وهذا الانتقال تنظمه مجموعة من الأحكام والقواعد (الفقرة الأولى) غير أن الانتقال الفوري يبقى عديم الجدوى إذا لم يتكلل بالتحفظ على الآثار والاحتراز منها (الفقرة ثانية).

الفقرة الأولى: قواعد الانتقال إلى مسرح الجريمة

تنص المادة 57 من ق م ج في فقرتها الأولى أنه:" يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي أشعر بحالة التلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة فورا وأن ينتقل في الحال إلى مكان ارتكابها لإجراء المعاينات المفيدة".

 ويلاحظ أن المشرع المغربي بمقتضى قانون المسطرة الجنائية ربط الانتقال إلى مسرح الجريمة بإخبار النيابة العامة التي تتولى تتبع الإجراءات التي يقوم بها ضابط الشرطة القضائية.

أولا: إشعار النيابة العامة

 يتضح أن مقتضيات المادة 57 من ق م ج أوجبت على ضباط الشرطة القضائية بمجرد علمهم بوقوع جريمة متلبس بها أن يعلموا بها حالا النيابة العامة.

 فقد يبدو لممثل النيابة العامة ضرورة الانتقال بنفسه إلى مكان ارتكاب الجريمة، كما يمكن لقاضي التحقيق الانتقال إلى عين المكان، وقد يحدث أن يتواجد كل من ضابط الشرطة القضائية، وممثل النيابة العامة، وقاضي التحقيق في آن واحد.

 وقد ألزم المشرع ضابط الشرطة القضائية إشعار النيابة العامة بمجرد توصله بخبر وجود حالة تلبس بجناية أو جنحة، لأنه يحق للوكيل العام للملك أو وكيل الملك كل حسب اختصاصه الانتقال كذلك إلى مسرح الجريمة والقيام بإجراءات البحث التلبسي، غير أنه لم يتم ترتيب أي جزاء أو أثر قانوني عند الإخلال بعدم إخبار النيابة العامة بالتنقل.

 وتفاديا للإشكال الذي يمكن أن يثيره كل من ضابط الشرطة القضائية وممثل النيابة العامة جاءت المادة 71 من ق م ج حاسمة عندما نصت أنه يستلزم حضور ممثل النيابة العامة في حال وقوع جناية أو جنحة تخلي ضابط الشرطة القضائية عن العملية، ويتولى القاضي المذكور كل أعمال الشرطة القضائية المنصوص عليها في هذا الباب ويمكنه أيضا أن يكلف أي ضابط للشرطة القضائية لمواصلة العمليات".

 فالمشرع أسند لممثل النيابة العامة القيام بإجراءات البحث التمهيدي التلبسي بمجرد وصوله مكان الجريمة، وأن يرفع ضابط الشرطة القضائية يده عليها، كما يبقى لممثل النيابة العامة الخيار في مباشرة البحث بنفسه أو تكليف أحد ضباط الشرطة القضائية لمواصلة البحث.

 وفي حالة انتقال أحد أعضاء النيابة العامة إلى مكان الجريمة وانتقل قاضي التحقيق أيضا مع تواجد ضابط الشرطة القضائية، فقد حسمت المادة 75 من ق م ج في الجهة المختصة بقولها:" إذا حضر قاضي التحقيق بمكان وقوع الجناية أو الجنحة المتلبس بها، فإن الوكيل العام للملك أو وكيل الملك و ضباط الشرطة القضائية يتخلون له عن القضية بقوة القانون.

ويقوم قاضي التحقيق في هذه الحالة بجميع أعمال ضباط الشرطة القضائية المنصوص عليها في هذا الباب وله أن يأمر أيا من ضباط الشرطة القضائية بمتابعة العمليات. يرسل قاضي التحقيق إلى الوكيل العام للملك بمجرد انتهاء تلك العمليات جميع وثائق التحقيق ليقرر بشأنها ما يقتضيه الأمر.

وإذا حل بالمكان الوكيل العام للملك أو وكيل الملك وقاضي التحقيق في آن واحد، فلممثل النيابة العامة أن يلتمس مباشرة تحقيق قانوني يكلف بإجرائه قاضي التحقيق الحاضر، ولو أدى ذلك إلى خرق مقتضيات المادة 90 الآتية بعده"

فقاضي التحقيق هو الجهة التي يعود إليها الأولوية في القيام بإجراءات البحث والتحري إذا حضر إلى مكان الجريمة، كل من ممثل النيابة العامة وضابط الشرطة القضائية.

ثانيا: الانتقال إلى مسرح الجريمة

تتسم عملية الانتقال إلى مسرح الجريمة بالحركية وردة الفعل التي يجب أن تتسم بالفورية والحيوية في ذات الآن، لأنها مطلوبة لتوفير أسباب الحفاظ  المسرح على الحالة التي ارتكبت فيها الجريمة دون ترك فرص العبث أو تدمير الآثار والأدلة الموجودة، ناهيك عن تحقيق بعض النتائج السريعة التي لا تتحقق إذا ما تم التراخي في الانتقال لمسرح الجريمة و الأهداف المتوخاة من هذا التنقل.

1ـ اقتران الانتقال لمسرح الجريمة بحالة التلبس

 ربط قانون المسطرة الجنائية المغربي الانتقال لمسرح الجريمة بحالة التلبس التي تتطلب مجموعة من الإجراءات والعمليات الفورية. إذ يعتبر التلبس بالجريمة حالة ممتازة ودليلا واضحا على مخالفة القانون، تتطلب إجراءات سريعة وتدخلا فوريا استجماع عناصر الجريمة وفق مساطر خاصة يتمتع فيها ضابط الشرطة القضائية على هامش كبير من الحرية في البحث والتحري تماشيا مع خصوصية نظام التلبس.

فالجريمة المتلبس بها هي التي تشاهد وتعاين أوضاعها أو يضبط فاعلها أثناء اقترافه لها أو بعد تنفيذه لها بوقت قصير، لذلك تناولها المشرع المغربي من خلال تجلياتها القانونية المحددة في أربع حالات.

وبالرجوع لمقتضيات المادة 56 من ق م ج المحددة لحالات التلبس، يتبين أن التلبس بالجريمة يتجلى في الصور التالية:

 ـ ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة أو على إثر ارتكابها.

 ـ ضبط الفاعل مطاردا بصياح الجمهور على إثر ارتكابه الجريمة.

 ـ إيجاد الفاعل عليه آثار أو عالمة تدل على ارتكابه الجريمة.

 ـ التماس معاينة الجريمة المرتكبة داخل منزل من طرف صاحبه.

 واستند الفقه في تعريف التلبس بالجريمة إلى المادة 56 من ق م ج، ويكاد يشترك الفقهاء في تحديد مفهومه بكونه يسري على الجريمة المشهودة التي تضبط وقائعها وفاعلها أثناء ارتكاب الفعل الجرمي أو تضبط بعد تنفيذها في ظروف خاصة حددها القانون.

 وركز جانب آخر من الفقه في تعريفه لحالة التلبس على العامل الزمني في الفصل بين حالات التلبس  ودوره في وصف كل حالة بدقة بين ثالث حالات:

 ـ حالة التلبس الحقيقي[16].

ـ حالة التلبس المفترض[17].

ـ حالة التلبس القياسي[18].

 وعموما، فإن تحديد مفهوم للتلبس يأخذ أبعاده من وقائع مادية وموضوعات تقبل المعاينة والمشاهدة داخل حيز زمني تمتد بين نقطة ارتكاب الجريمة ولحظة اكتشافها.

 غاية الانتقال إلى مسرح الجريمة

الانتقال هو أول عمل يقوم به ضابط الشرطة القضائية مباشرة بعد إخباره بوقوع الجريمة، وهو مرتبط بأمرين:

 ـ إشعار النيابة العامة وإن لم يرتب المشرع على ذلك أي أثر قانوني.

 ـ ارتباط الانتقال إلى مسرح الجريمة بحالة التلبس.

 وطريقة الانتقال إلى مسرح الجريمة مسألة حيوية في غاية الأهمية لأنها تحقق فرصة وإمكانية الحفاظ على المسرح على الحالة التي ترك الجاني عليها دون أي عبث أو تدمير للآثار والأدلة الموجودة به[19].

لذلك، تتوخى التشريعات الاستعجال والفورية في الانتقال لمكان حدوث الجريمة بهدف تقوية فرص إظهار الحقيقة والتثبت من وقائع الجريمة كاملة والحفاظ على أوصافها ومعالمها والتحفظ على أدلتها قبل أي طمس أو يطالها الاندثار، فكل تراخ أو تهاون قد يشكل عائقا في سبيل كشف الحقيقة الإجرامية.

 وتتجلى قيمة الانتقال الفوري لمسرح الجريمة في النتائج المهمة التي يمكن الحصول عليها، المتمثلة في:

 ـ ضبط الجاني قبل فراره.

 ـ سماع المجني عليه قبل مفارقته الحياة.

 ـ سماع المصرحين قبل مغادرة المكان.

 ـ المحافظة على الآثار وترتيبها في أماكنها وعدم تداخل آثار أخرى معها[20].

فالانتقال الفوري إلى مكان وقوع الجريمة يكتسي أهمية من أنه يمنح للباحث الجنائي الانفتاح على مسرح تنفيذها الذي يحتوي على آثارها المختلفة والمعالم الناطقة باقترافها وهو الشاهد الأول على الجاني أو الجناة، مما يتعين التعامل معه بنوع من الدقة والاحتياط لينطق بمعطيات تسعف في البحث والتحري والوصول إلى الحقيقة، وكشف هوية الفاعل أو الفاعلين حتى إذا لاذوا بالفرار أو تواروا عن الأنظار[21].

فمسرح الجريمة يمكن من إعادة تشخيص الجريمة وتمثيلها لأنه المكان الذي تنبثق منه كافة الأدلة، ويزود المحققين بخارطة البحث والتحري واستجماع المعلومات الكافية، وهذا الهدف الأسمى هو الذي تسعى إليه فرق البحث والتحري.

الفقرة الثانية: مصالح التحفظ على مسرح الجريمة

يتخذ مسرح الجريمة مجموعة من الأشكال تتطلب تعاملا خاصا، إضافة إلى أن الآثار ليست من جنس واحد مما يفرض توظيف أساليب و أدوات علمية تنسجم مع خصوصية كل دليل على حدة.

فالتحفظ على مسرح الجريمة يخضع لإجراءات أولية احترازية وأخرى ميدانية يجب أن تتم مراعاتها بغية الوصول إلى الأهداف المرجوة.

أولا: الإجراءات الأولية الاحترازية

 إن الانتقال لمسرح الجريمة يعني مغادرة ضابط الشرطة القضائية لمكتبه وردة فعل طبيعية وفورية تهدف الوصول إلى مكان ارتكاب الجريمة بأقصى سرعة بهدف تسييجه ومنع كل ما من شأنه طمس معالمه.

فبوصول الضابط المختص إلى عين المكان، عليه اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحمايته وتوفير أسباب بحث قانوني وفني يروم الإحاطة بظروف وملابسات الجريمة وكشف أدلتها ومرتكبيها.

 لذلك يجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة بإتباع الخطوات التالية:

 ـ إبعاد المتطفلين عن مكان الجريمة.

 ـ تطويق مسرح الجريمة وتسييجه بهدف ضبط جغرافيته.

 ـ اكتشاف المكان و مكوناته.

ـ وضع حراسة مؤقتة حفاظا على الآثار.

 ـ القيام بعملية كشف واسعة.

 ـ استدعاء أجهزة التحقيق المختصة إذا تعلق الأمر بآثار تحتاج إلى مهارات علمية وفنية دقيقة.

ويجب تقدير الإجراءات الاحترازية الأولية والتعامل معها بدقة متناهية بحسب كل حالة على حدة، لأن القاعدة هي أنه إذا كان مسرح الجريمة داخل الجدران وجب أن تشمل الجريمة المسرح الرئيسي، وكذلك منافذ دخول المجرم وخروجه إن أمكن.

وفي هذا الصدد يجب تركيز الاهتمام على الأدلة المحتملة التي تكون على الأرض خارج إحدى النوافذ أو في الحجرات التي لابد أن ينفذ منها المجرم أو في السلالم أو الدهاليز أو ما إلى ذلك.

وإذا كان مسرح الجريمة خارج المبنى وجبت إحاطته بحبال تضم داخلها الطريق الذي مر به المجرم إلى المسرح الرئيسي إذ أنه كثيرا ما توجد أهم الأدلة في هذا الطريق أو على مقربة منه لأن المسرح الفعلي للجريمة قد تكون أقدام كثير من الفضوليين وطأته قبل قدوم الشرطة مما يجعل البحث عن الأدلة فيه مستحيلا، أما في الأماكن المكشوفة فالا يمكن إجراء عملية تطويق فعال إلا إذا وضع الضابط بنفسه خارج المحيط أو الممرات التي تحيط بالمكان، مع تأكده أن الجمهور لا يستطيع النفاذ إليه، وحماية المسرح في هذه الحالة إنما يعني مجرد أن الضابط لا يسير بغير هدف داخل أو خارج المنطقة المحاصرة، وأن عليه أن يقيد تحركاته حتى يستطيع فيما بعد أن يعلل هذه التحركات[22].

ثانيا: الإجراءات الميدانية

 هناك ترابط وثيق بين الإجراءات الأولية التي تقوم بها أجهزة البحث، والإجراءات الميدانية أو الموضوعية باعتبار أنهما معا ينصبان على مسرح الجريمة، غير أن الأولى تعتبر تمهيدا لما سيأتي بعدها، وتوفر لها شروط النجاح.

فالإجراءات الميدانية تنصب على موضوع الجريمة أي أنها تشمل الأشياء والأشخاص، والتماس الأدلة فيها وفق مناهج ووسائل علمية تتجاوز مجرد المشاهدة أو المعاينة إلى تطبيقات مخبرية غاية في الدقة.

 ومنح المشرع لضابط الشرطة القضائية هامشا واسعا من الاستماع إلى أي شخص قد تكون تصريحاته مفيدة في البحث[23].  ونظر لأهمية البحث في استجلاء الحقيقة وما قد يسفر عن ذلك من نتائج تسعف أجهزة الحكم في تقدير حكمها. وقد نصت المادة 65 من ق م ج صراحة على أنه "يمكن لضابط الشرطة القضائية أن يمنع أي شخص مفيد في التحريات من الابتعاد عن مكان وقوع الجريمة إلى أن تنتهي تحرياته.

 ويجب على كل شخص ظهر من الضروري معاينة هويته أو التحقق منها بناء على طلب من ضابط الشرطة القضائية، أن يمتثل للعمليات التي يستلزمها هذا التدبير.

 وكل من خالف مقتضيات هذه الفقرة السابقة يتعرض لعقوبة الاعتقال لمدة تتراوح بين يوم واحد وعشرة أيام، و غرامة يتراوح قدرها بين 200 و 1200 درهم أو إحدى هاتين العقوبتين فقط "

فينبغي على ضابط الشرطة القضائية بمجرد انتقاله إلى مسرح الجريمة أن يقوم بقراءة صحيحة لهذا المسرح، ويتخذ كافة الإجراءات المفيدة التي قد تشمل الأشياء والأشخاص، كل ذلك من أجل المحافظة على مكان ارتكاب الجريمة وتأمينه وبقاءه على حالته دون تغيير مما يسهل تحديد الآثار بدقة وإن كل اندثار أو طمس لهذه الآثار المادية سواء بإخفائها أو طمسها يصعب مأمورية المحقق الجنائي.

 فالمحافظة على مسرح الجريمة لا تهم الأغيار وحدهم بل تطال كذلك ضابط الشرطة القضائية ومعاونيه، فيجب أن لا يدخل إلى مسرح الجريمة إلا لضرورة ملحة كإسعاف المصابين مثالا. وعليه أن يسلك الأماكن التي لا تحتوي على الآثار المادية، والأقل احتواء لها، وإذا ما تدخلت أجهزة أخرى فيجب الحفاظ على دخولها إلى مسرح الجريمة بنظام وترتيب بشكل يكفل للآثار المادية حالتها التي كانت عليها ويوفر شروط الحماية اللازمة للأشياء المتخلفة عن الجريمة.

فالمحافظة على مسرح الجريمة هو أول ما يجب أن يراود الباحث الجنائي كيفما كانت درجته واختصاصه، وهو يبدأ منذ الانتقال إلى مكان الجريمة ويستمر طيلة فترات البحث والتحري حيث يجب عدم السماح لأي شخص الدخول لمسرح الجريمة، مهما كانت درجته أو رتبته إذا لم يكن من فرق البحث المكلفة بالبحث والتحري والتقصي.

المطلب الثاني: معاينة مسرح الجريمة

 إن الهدف من التنقل إلى مسرح الجريمة يتمثل في القيام بالمعاينات المفيدة التي تنصب على الأشياء والأشخاص والأمكنة وكل ما من شأنه المساعدة في البحث والتحري والكشف عن الحقيقة.

وللوقوف على النظام القانوني المؤطر للمعاينة سوف نقف على ماهيتها وأهميتها في فقرة أولى، وقواعد إجرائها و أشكالها في فقرة ثانية.

 

الفقرة الأولى: ماهية المعاينة وأهميتها

المعاينة هي وسيلة ذات أبعاد تقنية و فنية يقدرها الباحث الجنائي الذي يجب أن يكون عارفا بها وبأهميتها، لأنها تلعب دورا مركزيا في كشف الحقيقة ورفع كل لبس قد يعرقل إجراءات البحث.

وللإحاطة بالمعاينة كآلية من آليات فحص مسرح الجريمة والبحث والتحري عن أدلة إثبات سوف نعرض أولا إلى تعريفها، ثم الوقوف على أهميتها ثانيا.

أولا: الأبعاد الدلالية للمعاينة

تحتل المعاينة الصدارة فيما يخص الإجراءات التي تنصب على مسرح الجريمة، وتتخذ مجموعة من المستويات لأن مصادرها متعددة، ناهيك على أنها قد تمارس من ضابط عادي للشرطة القضائية، أو من متخصص متمكن من الوسائل العلمية والفنية التي تسعفه في كشف الأدلة المادية.

 ففي المرحلة الأولى تكون عبارة عن مشاهدة لمكان ارتكاب الجريمة ورسم حدوده والقيام بالإجراءات الأولية  للتحفظ عليه وحماية أمنه حتى لا تندثر آثاره ويستعصي كشف أدلته، وفي المرحلة الثانية تتقمص عباءة الفحص الكاشف عن الأدلة المادية وهو أمر يتطلب تخصصا فنيا وعلميا ومعرفة  قانونية، وهو أمر غير متاح لجميع ضباط الشرطة القضائية بل تضطلع به أجهزة مختصة متكونة تكوينا خاصا.

ثانيا: أهمية المعاينة

 يحتوي مسرح الجريمة غالبا على الآثار المتخلفة عن ارتكابها، والمعاينة تمثل مصدرا حيويا في استخراج الأدلة المادية منها، فبعض هذه الأدلة يتعلق بالجريمة ويفصح عنها، وبعضها الآخر يشخص الفاعل أو الجناة، ومن هنا تكتسي المعاينة أهميتها لأنها تشمل الجانبين:

1ـ أهمية معاينة مادية الجريمة

تنصرف معاينة الجريمة إلى الأفعال المكونة لها والنتائج المترتبة عنها من خلال الآثار التي خلفها الجاني أو الجناة، أي أنها تنصرف إلى الركن المادي وامتداده إلى الضحية.

فمعاينة الجوانب المادية والأشكال الخارجية للأفعال الجرمية يجب أن تتم وفق منهجية منظمة تحيط بمسرح الجريمة، وتتجلى هذه الأهمية من خلال تحقيق النتائج التالية[24]:

 ـ تحديد الآثار ورفعها: تحديد الآثار بدقة و تحسس أماكنها وتمييز الظاهرة منها التي ترى بالعين المجردة والباطنية التي تتطلب استخدام الأجهزة والأدوات الفنية.

 ـ تحديد نوع الخبرة المزمع القيام بها وبناء على طبيعة الجريمة المخلفة بمكان ارتكابها.

 ـ وضع تصور أولي لكيفية وقوع الجريمة.

 ـ ربط الآثار التي تم تجميعها من مسرح الجريمة بالنتائج المراد التوصل إليها والاهتداء إلى خطة البحث المناسبة.

 ـ تحديد مهام فرق البحث الجنائي، بحسب الاختصاص و طبيعة كل خبرة على حدة.

 ـ تحديد زمن ارتكاب الجريمة.

2ـ أهمية معاينة الأشخاص

 قد يظهر دليل الإثبات في الفاعل نفسه، مما يتعين ضبطه و4

معاينة آثار الجريمة بادية عليه وحددت المادة 56 من ق م ج إطارها العام. غير أن ما يستدعي الانتباه هو أن القانون المغربي لم يحدد من يقوم بضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة.

والمقصود بضبط الفاعل هنا هو معاينته أثناء ارتكابه الجريمة أو مباشرة عند الانتهاء منها، والمعاينة موكولة لضابط الشرطة القضائية الذي يجب عليه الانتقال فورا إلى مسرح الجريمة بمجرد إخباره بذلك، فعامل الزمن يلعب دورا حاسما في هذه الحالة، ليكون التلبس بالجريمة حقيقيا حيث يتزامن ارتكابها باكتشافها وهي حالة ممتازة في التثبت ونسبتها إلى صاحبها.

وأن تتم معاينة الفاعل وهو مطارد بصياح الجمهور على إثر ارتكابه الجريمة. وتتحقق هذه الحالة بقيام العامة أو الجمهور بتتبع مرتكب الجريمة مع الصياح إثر وقوعها، وذلك بتوفر شرطين:

 ـ صياح الجمهور الذي يعقب ارتكاب الجريمة.

 ـ مطاردة الجاني الذي يفر هاربا بعد ارتكابه الجريمة[25].

فعامل الزمن هنا كذلك حاضر بقوة لأن صياح الجمهور يعقب مباشرة ارتكاب الجريمة مما يقوي فرضية حصولها في ظروف تحيطها ملابسات وقرائن، تؤكد الشبهة القائمة من الفاعل.

وتتسع معاينة ضابط الشرطة القضائية لتشمل وضعية الفاعل متى تم إيجاده بعد مرور وقت قصير على ارتكابه الجريمة ومعه أسلحة أو أشياء أو آثار أو علامات تدل على مشاركته في الجريمة.

 فالضابط القانوني هنا هو أن تنصب المعاينة على سلسلة القرائن والأدلة التي تثبت علاقة الجاني بالجريمة والتي تظهر من خلال مجموعة من الأمارات والعلامات اللصيقة به.

وهذه الدلائل المتمثلة في الأسلحة والأشياء والآثار والعلامات أوردها القانون على سبيل المثال، حيث يتمتع ضابط الشرطة القضائية على هامش كبير من المرونة في استقصاء واستجلاء كل قرينة تفيد تورط الفاعل في ارتكابه الجريمة.

الفقرة الثانية: قواعد إجراء المعاينة

 لكي تنتج المعاينة آثارها في التدليل على الجريمة ونسبتها إلى مرتكبيها، فلابد أن يخضع وبشكل صارم إلى قواعد إجرائية قد يترتب على خرقها بطلان الإجراءات المتخذة، كما أن المعاينة ليست على شكل واحد فإنما تأخذ مظاهر عديدة سيما وأنها تنصب على الأماكن وعلى الأشخاص، ولكل نوع إجراءات  وقواعد تميزه.

أولا: قواعد إجراء معاينة الأماكن

 تتيح المعاينة للمحقق الجنائي فرصا حيوية في تحديد الأماكن المراد تفتيشها والأشياء التي ينبغي حجزها، لاستخلاص الأدلة المادية وكشف غموض الجريمة وإيقاف مرتكبيها.

 فالمعاينة تؤطرها قواعد إجرائية مهمة تتمثل في الوصف الأولي لمسرح الجريمة، ثم تفتيشه، ثم القيام بالحجز للأدوات والآثار المادية للجريمة.

1ـ وصف مكان الجريمة

مسرح الجريمة أنواع، مما يجب التعامل مع كل نوع بحسب طبيعته ومكوناته، ويخضع مكان الجريمة لوصف ترابي، حيث ينصب على خارجه ثم الولوج إليه من الداخل، ووصف محتوياته وما قد يحتويه من مواد و أشياء.

أـ الوصف الخارجي

 إن النظرة الفاحصة للمحقق الجنائي تبدأ من إلقاء نظرة على المكان من خارجه من أجل تكوين فكرة واضحة عن مسرح الجريمة وطبيعته وموقعه  وحدوده والمسالك المؤدية إليه، وتحديد ذلك بدقة، لينفذ إلى داخله وموقعه نقطة ارتكاب الجريمة 

ب ـ الوصف الداخلي

 ينتقل الباحث الجنائي إلى داخل مسرح الجريمة، ويبسط معاينته ومشاهدته على كل أرجائه بدءا من تلك القريبة من نقطة اقتراف الجريمة، ليضع يده على خيوطها ويكون فكرة عامة تسعفه في تحديد نقط الارتكاز أو التي يشتبه فيها، حيث يشرع في بحثه وتحرياته.

ت ـ وصف محتويات المكان

قد يكون المكان فارغا شاغرا كما هو الشأن لأرض خلاء، وقد يحتوي على منقولات وما شابه ذلك، حيث يجب تتبع وصفها بدءا من المنافذ الأولى للمكان، إلى ما يتواجد داخله من أشياء، مع التركيز على الأشياء المفيدة المسعفة في استنباط الأدلة المادية، وصف الأمكنة ومحتوياتها تمكن الضابط المختص من تكوين صورة كاملة عن مسرح الجريمة.

 فالمعاينة المبنية على وصف الأمكنة، تفضي إلى تحقيق نتائج في غاية الأهمية:

ـ تحديد نقطة ارتكاب الجريمة وتتبع محيطها القانوني.

ـ الوقوف على كيفية دخول الجاني إلى مسرح الجريمة و كيفية خروجه منه.

 ـ معرفة الوسائل التي اعتمدها الجاني في اقتحامه مسرح الجريمة ما إذا دخله مترجلا أو معتمدا وسيلة نقل معينة.

 ـ حصر عدد الفاعلين على وجه التقريب إذا تعددوا.

 ـ الوقوف على الأسلوب الذي اتبعه الجاني في ارتكاب الجريمة وطبيعة الأدوات المستعملة. 

2ـ إجراءات التفتيش

 إذا كان تفتيش الأماكن لا يثير أي إشكال متى كانت عارية أو غير آهلة بالسكان، فإن تفتيش الأماكن"المنازل" يجب أن يتم وفق إجراءات مسطرية صارمة تحت طائلة البطلان حسب مقتضيات المادة 63 ق م ج.

فقد أحاط المشرع المغربي تفتيش المنازل بمجموعة من الضمانات تتماشى وحرمتها التي لا ينبغي انتهاكها من أحد، لأن هذه الحصانة ليست مطلقة تحول دون تحصيل الأدلة لفائدة البحث.

فضابط الشرطة القضائية يمكنه القيام بعملية التفتيش في حالة التلبس ولو من دون قبول ورضا صاحب المنزل باللجوء إلى استعمال القوة العمومية متى كان ذلك ضروريا وإلزاميا، غير أنه يتعين عليه التقيد بالشروط التالية:

 ـ احترام الوقت القانوني للتفتيش ضمانا و صيانة للحقوق؛ "المادة 62 من ق م ج"

ـ تضمين عمليات التفتيش في محضر قانوني.

 ـ الحفاظ على السر المهني.

 ـ اعتبار خصوصية المحلات المعدة للاستعمال المهني"المادة 59 ق م ج"

 ـ إذا تعلق الأمر بتفتيش مكتب محام، فقد أناطه المشرع لأحد قضاة النيابة العامة بحضور نقيب هيئة المحامين، أومن يمثله أو بعد استدعائه بكل الوسائل القانونية.

3ـ إجراءات الحجز

 نصت الفقرة الثانية من المادة 57 من ق م ج أنه:" يحافظ على الأدلة القابلة للاندثار وعلى كل ما يمكن أن يساعد على إظهار الحقيقة وأن يحجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة أو التي كانت معدة لارتكابها وكذا جميع ما قد يكون ناتجا عن هذه الجريمة".

إن حجز الأدلة وكل ما له علاقة بالجريمة من أسلحة وأدوات من العلامات الموكولة لضابط الشرطة القضائية والتي يتوصل إليها بأحد الطرق التالية:

 ـ عن طريق المعاينة والتفتيش.

 ـ إيجاده وضبطها بمكان الجريمة أو بحوزة الجاني.

 ـ تقديمها من طرف أحد الأشخاص.

 فيقوم ضابط الشرطة القضائية بضبطها وإحصائها فورا ووضعها في غلاف مختوم يشير فيه إلى طبيعتها وإحصائها ووزنها إذا تعلق الأمر بأشياء أو مواد تقدر بالوزن كالذهب أو بالكمية والعدد كالمشروبات الكحولية. فإذا تعذر إحصاء الأشياء المحجوزة فورا، يختم عليها مؤقتا إلى حين إحصائها والختم عليها نهائيا، وتتم هذه العملية بحضور الأشخاص الذين حضروا عملية التفتيش.

 وتجدر الإشارة إلى أن الغاية من الحجز تكمن في المحافظة على الأدلة من الاندثار، ونظرا لما لهذه الأخيرة من دور في إظهار الحقيقة، فقد تم منع أي شخص غير مؤهل قانونا من تغيير حال المكان الذي وقعت فيه الجريمة ومحو آثارها وإزالتها بشكل يعرقل سير العدالة تحت طائلة عقوبة تتراوح من ثلاث أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 3000إلى 12000درهم المادة 58 ق م ج.

 ونصت المادة 57 من ق م ج صراحة على تعرض الأشياء المحجوزة على الأشخاص المشتبه في مشاركتهم في الجريمة قصد التعرف عليها. فكل هذه العمليات التي أنجزها ضابط الشرطة القضائية بمناسبة وصف مسرح الجريمة وتفتيشه وحفظ المحجوزات التي تم العثور عليها، يتم تضمينها لزوما في محضر قانوني يذكر فيه الأسباب الداعية إلى التفتيش والمكان الذي أجري فيه، والوقت الذي أنجز خلاله. 

ثانيا: معاينة الأشخاص

 غالبا ما يجد ضابط الشرطة القضائية بمسرح الجريمة الأشخاص الذين يتصلون بهم أو بعضهم، كالجاني أو المجني عليه والمصرحين، فتقتضي قواعد البحث الجنائي معاينتهم لإثبات حالتهم وأوضاعهم والآثار البادية على أشخاصهم.

1ـ وصف أشخاص الجريمة

 ينصرف الوصف إلى الجاني إذا تم العثور عليه بمسرح الجريمة وكذا الضحية المجني عليها، وهو وصف خارجي يتعلق بالمظهر الخارجي، وفق قواعد خاصة يتبعها الباحث الجنائي على الشكل التالي:

 ـ وصف مظهر الشخص بالتركيز على تقاطعات جسده، كطول قامته أو قصرها، وشكل وجهه ونوع شعره، ولون بشرته، وشكل عيونه، وما إذا كانت تتواجد بجسمه علامة معينة أو تشوه خلقي، والوقوف على حالته العقلية ما إذا كانت طبيعية أو تعاني نقصا في مداركه، وطريقة نطقه ولكنته التي تفصح عن لهجته.

 ـ تحديد هوية الشخص بالإفصاح عن اسمه وسنه، ومهنته ووضعيته العائلية ومحل إقامته، وجنسيته، ورقم بطاقته الوطنية.

 ـ وصف الملابس الخارجية للأشخاص من خلال تحديد نوعها ولونها وحالتها. هذا الوصف الأولي يعطي صورة للمحقق الجنائي في تمثل أشخاص مسرح الجريمة،

وبناء فرضيات تسعفه في تكوين نظرة أولية على طبيعة هؤلاء وتصور مراكزهم الاجتماعية والاعتبارية.

2ـ فحص جسد أشخاص الجريمة

 يتم تركيز هذا النوع من الفحوصات على جسد الضحية بمعاينة طبيعته وحجم الإصابات التي تلقاها، وما خلفته من ردود وكدمات ومكان تواجدها ونوعها، ومختلف الجروح التي يعاني منها الضحية.

 وإذا كانت الضحية قد فارقت الحياة، يتأكد المحقق الجنائي من ذلك ومن درجة سخونة جسده وما إذا كانت الوفاة قريبة الحدوث.

 أما الجاني، فإن الفحص الذي يتعرض له يبدأ بالتدابير الوقائية لإزالة كل شيء يحمله معه قد يشكل خطرا أثناء التحقيق معه، ثم يتركز الفحص على أعضائه إذا كانت بها آثار جراء رد فعل الضحية ضده، ثم ملابسه إذا ما كانت تحمل بعض آثار الجريمة كأن تكون ممزقة أو تحمل بعض بقع الدم.

3ـ تفتيش الأشخاص

نصت المادة 66 والمادة 81 من ق م ج أنه:" يجوز لضباط الشرطة القضائية إجراء تفتيش يسري على كل شخص تم وضعه تحت الحراسة النظرية.

لا تنتهك حرمة المرأة عند التفتيش، وإذا تطلب الأمر إخضاعها للتفتيش الجسدي يتعين أن تقوم به امرأة ينتدبها ضابط الشرطة القضائية لذلك، ما لم يكن الضابط امرأة "

 يتضح أن المشرع المغربي ضيق من إجراء تفتيش الأشخاص وجعل منه تدبيرا استثنائيا مشروطا بالوضع تحت تدابير الحراسة النظرية، وبمفهوم المخالفة لا يمكن لضابط الشرطة القضائية استعمال هذه الصلاحية طالما لم يتم اللجوء إلى نظام الحراسة النظرية.

 

خاتمــة:

يكتسي البحث في مسرح الجريمة أهمية قصوى في بناء علاقات الأفراد والجماعات مع الدولة على الأقل بالنسبة لمكافحة الجريمة أو الحد منها، مما يجعله يقوم بعدة وظائف معينة.

فمسرح الجريمة يكتسي أهمية كبيرة خصوصا في ما يتعلق بحداثة الآثار، وهاجس الخوف من اندثارها أو طمسها ومحوها بما قد يؤثر سلبا على إقامة الدليل الجنائي وبالتالي تكريس فلسفة الإفلات من العقاب، وما قد يترتب عن ذلك من شعور بالاستياء وعدم الاطمئنان على الحقوق والحريات، وانعدام الثقة في أجهزة البحث والتحري، ومن خلالها السلطات العامة، مما يهدر عنصر الثقة المشروعة وتتبخر فلسفة الأمن الجنائي.

 ومن أجل تكريس هذه الفلسفة، فقد نص دستور فاتح يوليوز 2011 على ضرورة تقوية الحماية القانونية والقضائية لحقوق الأفراد ولاسيما الفئات الهشة وحماية السلامة الجسدية للمواطنين ومنع كافة ممارسة التعذيب ويتضح دلك جليا من خلال الباب الثاني من الدستور المملكة.



[1]- La scène de crime est l’ensemble des en droit ssusceptibles de contenir des indices en lien avec un acte criminel.

[2]- غازي العصيمي " إسهام البحث الجنائي في الكشف عن الجرائم المقيدة ضد مجهول " مركز الدراسات والبحوث، جامعة نايف الرياض، ط 1 ص: 22.

[3]- طه أحمد طه متولى " التحقيق الجنائي وفن استنطاق مسرح الجريمة " منشأة المعارفالإسكندرية 2000، ص: 12.

[4]- محمد الأمين البشري " التحقيق الحسابي المتكامل" مركز الدراسات والبحوث،أكاديمية نايف للعلوم الأمنية "الرياض" طبعة الأولى 1998 ص: 157.

ـأحمد قيلش ومحمد زنون " الشرطة القضائية " الكتاب الأول، ط 1 /2013 ،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص: 130.

[5]- فادي عبد الرحيم الحبشي " المعاينة الفنية لمسرح الجريمة " دار النشر، المركز العربي للدراسات والتدريب، الرياض 1995، ص:32.

[6]- محمد محمد عنبي " معاينة مسرح الجريمة " ح1 ،المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض 1991، ص: 51.

[7]- محمد الأمين البشري، م . س، ص: 162.

[8]- سامي المنذري " موسوعة العلوم الجنائية : تقنية الحصول على الآثار والأدلة المادية " ج 1، مركز بحوث الشرطة الشارقة، ط 1،2007، ص: 96 وما يليها.

[9]- فادي عبد الرحيم الحبش، م . س، ص: 24.

ـمحمود عبد العزيز محمد " التحريات ومسرح الجريمة ومصادرها المادية والبشرية عمليا وتطبيقيا ومدى فاعليتها أماما لقضاء الجنائي، دار الكتب القانونية مصر، ط 1،2011، ص: 259.

[10]- محمود عبد العزيز محمد، م . س، ص: 268.

[11] -سامي المنذري، م س، ص: 260.

[12]- عبد الفتاح مراد " التحقيق الجنائي التطبيقي " دار النهضة العربية القاهرة 1984 ص: 272 وما يليها.

[13]- أحمد قيلش ومحمد زنون، " كتاب الشرطة القضائية "، م . س، ص: 131.

[14]-مديحة فؤاد الحضري أحمد بسيوني أبو الروس الطب الشرعي ومسرح الجريمة والبحث الجنائي " دون ذكر السنة والطبعة، ص: 682.

[15]- مديحة  فؤاد الحضري أحمد بسيوني أبو الروس، مرجع سابق، ص: 752.

[16]-بالإضافة إلى المادة 56 ق م ج التي تعتبر أساسية في تحديد حالات التلبس فإن المشرع أورد مواد أخرى ميز بها التلبس بالجريمة عن غيرها من الحالات الأخرى كما هو الشأن في المادتين 74 و 76 من نفس القانون، ويبقى التقارب الزمن يبين لحظة ارتكاب الجريمة ولحظة اكتشافها حاسما في إسباغها بطابع التلبس.

[17]-التلبس الحقيقي هو الحالة التي يتم فيها ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة أو على إثر ارتكابها أو عندما يكون مازال مطاردا بصياح الجمهور حيث تكون مادية الجريمة قائمة ويمكن التأكد منها بالعين المجردة وتكون معالمها واضحة للعيان حيث يلعب الزمن دورا أساسيا في هذه الحالة وهو من الوسائل الموضوعية التي تدخل في إطار السلطة التقديرية للقاضي الجنائي.

[18] -ـأحمد الخمليشي " شرح قانون المسطرة الجنائية " ج 1 ط 5 1999 ص: 282.

[19]- السيد المهدي، " مسرح الجريمة ودلالته في تحديد شخصية الجاني " دار النشر المركز العربي للدراسات الأمنية 21 والتدريب، الرياض 1993،ص: 33.

[20]- السيد المهدي، م . س، ص: 33 ـ 34.

[21]-  أحمد قيلش ومحمد زنون، م . س، ص: 132.

[22]- السيد المهدي، م س . ص: 49 ـ 50.

[23]- نصت المادة 60 من ق م م بأنه:" يمكن لضابط الشرطة القضائية أن يستدعي أي شخص لسماعه إذا تبين له أن بوسعه ذلك لشخص أن يمده بمعلومات حول الأفعال أو الأشياء أو الوثائق المحجوزة وأن يرغمه على الحضور في حالة امتناعه بعد إذن النيابة العامة".

[24]- السيد المهدي، م . س، ص: 35 وما يليها.

[25]- أحمد قيلش ومحمد زنون، م . س، ص: 123.

إرسال تعليق

0 تعليقات