آخر الأخبار

Advertisement

دور تكريس الحريات العامة في تعزيز هيبة الدولة . الدكتور موساوي عبد الحليم، العدد 41 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث


 دور تكريس الحريات العامة في تعزيز هيبة الدولة . الدكتور موساوي عبد الحليم، العدد 41 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث


لتحميل العدد الذي يشمل المقال بصيغة pdf الرابط أذناه:






الدكتور موساوي عبد الحليم

          كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة طاهري محمد

  بشار الجزائر

 دور تكريس الحريات العامة في تعزيز

هيبة الدولة

The role of public freedoms consecration in strengthening the status of the state

مقدمة:

 شهدت السنوات الماضية اهتماما متزايدا بموضوع الحريات العامة، إلى درجة باتت النهوض بها وفق المبادئ والمعايير الدولية لحقوق الأفراد والجماعات وحقوق الشعوب عامة، يحتل مقدمة الخطاب الذي بات يفرضه النظام العالمي في السنوات الأخيرة.

كما بات موضوع الحريات العامة ملازما لفكرة تجسيد "الحكم الراشد"، هذا الأخير الذي تعدى بدوره نطاقه الاقتصادي، وتحول إلى فاعل الرئيسي في صنع وتنفيذ السياسات العامة للدولة المتحضرة، وهو ما تجلى في الاهتمام بتوسيع نطاق مشاركة المواطنين ودورهم في عملية الحكم وتقليص أدوار الدولة ومنح القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني دورا أكبر في عملية التنمية.

وفي هذا الإطار، احتلت ثنائية "الحريات العامة، الحكم الراشد" صدارة اهتمامات منظري الفكر السياسي والقانوني، لتتحول هذه الثنائية فيما بعد إلى العنوان الأبرز في مشروع نشر الحرية والديمقراطية الذي تبنته الدول العظمى مؤخرا.

والملاحظ أن الدعوى لتكريس "الحريات العامة" تواترت في جميع مؤلفات الفقهاء القانونيين والسياسيين، وتضمنتها أرمادة من النصوص الدولية الإقليمية والعالمية.

 فقد صدرت بعد هذا الإعلان 15 إعلانا وعهدا عالميا وإقليميا كان من أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10دجمبر 1948 م عن هيئة الأمم المتحدة ثم الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في طهران الصادر في يناير 1980 والإعلان الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب،الصادر بتاريخ 28يونيو 1981م، هذه الإعلانات كلها حاولت تكريس حقوق الإنسان وحرياته بمختلف أشكالها وأصبحت الدول تحيل إليها كمرجعية لوثائقها الدستوري.[1]

وبالتالي فهذه الدول ملزمة بتكريس هذه النصوص في نظم القانونية، عبر جعلها مرجعية لوثائقها الدستورية، التي تشكل القوانين الأسمى في هذه الدول.

وضمن سياق هذا التداخل بين متطلبات الحكم الراشد، ومبادئ الحريات العامة، والذي مرجعه أن نصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان في إقرارها لمجمل الحريات العامة، حملت في طياتها الحديث عن مرتكزات الحكم الراشد.

ومما لاشك فيه أن تكريس الحريات العامة يضمن لها احتراما ومكانة في هذا العالم، الذي يبدو أن بوصلة توجيهه تسير نحو تكريس مبادئ الحرية والديمقراطية بكل إفرازاتها، وبالتالي تكتسي الدولة تلك الهيبة التي قد تفقدها إذا تبنت منطق الخطاب السلطوي المتسلط، الذي أظهرت التجارب أن عمره كان قصيرا، و إن طال فإنه لا يفرز لنا إلا وضعا متعفنا على كامل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية...

كما أن الدولة حال إقرارها لهذه الحريات العامة، إنما تخطو خطوات نحو تكريس الحكم الراشد، الذي يضمن للدولة هيبتها على الصعيد المحلي، فضلا على الصعيد الدولي.

لذا يأتي هذا المقالفي إطار محاولة لرسم تصور مناسب لدور الذي يلعبه تكريس الحريات العامة في سبيل استرجاع الدولة هيبتها، خاصة مع تعالي الدعوات لمزيد من الحرية ضمن هذا الخطاب الدولي السائد، والذي وضع موضوع "هيبة الدولة" محط مساءلة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

واتجه موقفنا أنه لرسم تصور متكامل لهذا الموضوع، علينا المرور بنقطتين رئيستين هما: المبحث الأول: دور الحريات العامة في تجسيد هيبة الدولة. المبحث الثاني: الحكم الراشد وقياس هيبة الدولة من خلال تكريس الحريات العامة.

حيث سنضمن موضوعنا مجموعة من الشواهد سواء بنصوص قانونية دولية وعالمية سواء فيما يتعلق بالحريات العامة، أو متطلبات الحكم الراشد، إلى جانب شواهد تطبيقية، من خلال تقديم قراءة تقييمية لبعض التجارب الملموسة لبعض الدول.

المبحث الأول: دور الحريات العامة في تجسيد هيبة الدولة.

شهدت السنوات الأخيرة وتحديدا منذ بداية تسعينات القرن العشرين تصاعد " حمى الديمقراطية "، وبالتالي تركز الحديث كثيرا حول طريقة الحياة وأسلوب الحكم الذي يقوم على أساس قيام السلطة على إرادة الشعب، وممارسة الشعب حريته، وحقه في اختيار السلطة التي تحكمه، بطريقة يقبلها، وضمان حقوقه الأساسية السياسية والاجتماعية في المساواة وحرية التعبير والتنظيم والعمل والمشاركة في صياغة الحياة السياسية والاجتماعية.

وهي أمور تدعمت بعض اتساع نطاق الحديث عن الحريات العامة، التي باتت تشكل الحجر الزاوية في إقامة المجتمع المتحضر.

وبالتالي باتت الحريات اليوم المعيار الرئيسي للحكم العادل ومقياس شرعية السلطة وممارستها، كما تحولت إلى التزام على عاتق الدولة ومقياس لشرعية الحكم فيها، وفي هذا السبيل من الضروري الوفاء بالالتزامات المتعلقة باحترام الدول هذه الحقوق والتثقيف بها وإشاعتها، كتلك الناشئة من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري،....[2]

وتتجلى فكرة الحريات عمليا من خلال الإقرار بالمساواة بين المواطنين وبمبادئ المواطنة الكاملة، وهما الأساسان في الدولة العصرية، وهذا يتطلب إقرار واعتماد التعددية الفكرية والتنوع السياسي والقومي والديني في مجتمعاتنا، وضمان الحريات للأفراد والجماعات وبخاصة حرية التعبير وحرية التنظيم السياسي والنقابي والمهني وحرية الاعتقاد وتوسيع دائرة المشاركة باعتبارها حقا أساسيا، يضمن حق تولي المناصب العليا والوظائف العامة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة أو الاتجاه السياسي أو الانحدار الاجتماعي أو الجنس أو المعتقد أو لأي سبب آخر...ووفق هذا التوجه فإنه لا يمكن التذرع بالخصوصية للتملص من الاستحقاقات الدولية والآليات العالمية للإصلاح مثلما لا ينبغي التجاوز على الخصوصيات وعدم احترامها بحجة العولمة والكونية، و إنما يمكن الاستفادة منها في رفد التيار العالمي من خلال خصوصياتنا، وليس التحلل من التزاماتنا الدولية.[3]

ووفق منظور عملي فإن مثل هذه الأمور تتجسد في تكريس الديمقراطية كخيار وحيد في الدولة وهو ما ستتعزز به تنمية الدولة، بإعتبارها الأساس الجوهري في موضوع هيبة الدولة.

وفي هذا الإطار نجد أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية تكاد تكون علاقة جدلية، لأنه أصبح من البديهي أنه لا وجود لتنمية حقيقية وشاملة دون التدبير المنفتح للتوترات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تنشأ بين السياسات العامة التي تهتم بخدمة الصالح العام والاستثمارات الخاصة التي لا تهتم إلا بالربح.

يأتي هذا في الوقت الذي يتطلع فيه الأفراد إلى تحقيق مستويات راقية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني أن الدولة مطالبة بتوفير الرفاهية المادية لمواطنيها من خلال تحسين المستوى المعيشي، الزيادة في دخل الأفراد، التحرر من الفقر والحرمان، توفير مناصب الشغل اللائقة، تحقيق الانسجام والاستقرار الاجتماعي، تخفيف التوترات والنزاعات الاجتماعية، وكبح الانتهاكات المختلفة التي تتعرض لها حقوق الإنسان، إلى جانب توفير خدمات اجتماعية مناسبة، وبالتالي فإن التنمية هي المحصلة النهائية تنمية بشرية-نوعية معيشية أفضل، مع خيارات وفرص أوسع-، المساواة في المعاملة، حرية الخيار، التعبير عن الرأي وفرص للمشاركة في عملية إدارة الحكم. [4]

وهي الأمور التي نرى حسب اعتقادنا أنها المرتكزات الهامة في سبيل تكريس هيبة الدولة أمام الفرد، الذي يرى فيها واجب تحقيق هذه المتطلبات من خلال السلطات المشكلة لكيانها السياسي، وبالتالي تتوحد دعوات منظري الحكم الراشد ودعاة حقوق الإنسان أن الديمقراطية الطريق الوحيد لبلوغ الدولة هذه الأهداف في سبيل تكريس هيبتها أو استرجاعها.

وفي هذا الصدد، يذهب الكثير إلى أن جميع الأطروحات التي كانت تؤجل الديمقراطية السياسية بإسم تحقيق الديمقراطية الاجتماعية والتنمية الشاملة قد سقطت، لأن العمل من أجل التنمية الشاملة والديمقراطية الاجتماعية على حساب الديمقراطية السياسية، لا يؤدي إلا إلى البيروقراطية القاتلة التي تكون  الديمقراطية الاجتماعية نفسها والتنمية الحقيقية أولى ضحاياها، كما أن ممارسة الحقوق السياسية الأساسية، تضمن احترام الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعني أن بناء نظام الحكم الديمقراطي وتقويته يعد مكونا محوريا لعملية التنمية، والشاهد في كل هذا أن أغلبية الدول غير الديمقراطية لم تنجح في تحقيق التنمية، وخير مثال على ذلك، وضعية الدول الأوربية، حيث أظهر تقرير التنمية البشرية لعام 2004، أن الدول الفقيرة أو المنخفضة الدخل، هي التي كانت تتبع النهج الاشتراكي في السابق، ولم تكن نظمها السياسية نظما ديمقراطية، بينما حققت اسبانيا والبرتغال التنمية، عندما تحولتا إلى الديمقراطية في السبعينيات من القرن الماضي، بالإضافة إلى أن بعض الدول التي اتبعت الديمقراطية السياسية، قد نجحت في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية، وخير مثال على ذلك تجربة الدول الاسكندينافية.[5]

وكانت نقطة البداية في تبني هذه الخيار، هي ممارسة الشعب لسلطته، عبر انتخابات تشريعية ونيابية نزيهة لا مجال فيها لأي تزوير أو عبث، وفقا لنظام حزبي متوازن، وحكومات تحوز على ثقة ممثلي الشعب لتمارس سلطاتها وفقا للدستور والقانون، على نحو ما يحقق مصلحة الشعب، وقضاء مستقل ونزيه فعلا لا سلطان عليه إلا للقانون وحده، وفوق هذا رأي عام حر من حقه أن يقول كلمته عند أي اعوجاج أو انحراف يصدر عن أي واحدة من السلطات.[6]

وضمن هذا السياق يلخص الكثير للعناصر الأساسية التي ينبغي أن تكون مطلبا للناس لقيام الديمقراطية، وهي عناصر لا تقوم الديمقراطية إلا بغيرها، وضمن طيات هذه العناصر، تتجلى  الحريات كعناوين بارزة لهذه العناصر، الواجب توافرها في سبيل تحقيق نظام ديمقراطي، يضمن للدولة قدسيتها في نظر مواطنيها  وهيبتها في نظر مثيلاتها من الدول أو المنظمات الدولية.

وبالتالي فعلى الدولة في سبيل ذلك، وبموجب دورها المتعارف عليه، أن تحوز قبول مواطنيها، وتتولى الدفاع عن حقهم في الحياة والحرية، وتوفر لهم الحماية من العدوان، وتضع القواعد الكفيلة لتمكينهم من ممارسة حرياتهم الأساسية، وبالتالي فإن الدولة التي تؤدي هذا الدور هي الدولة التي تتمتع بالشرعية والتي تلتزم بحكم القانون، الذي يخدم المصلحة العامة، لا مصالح جماعة محددة، والدولة التي تحيد عن هذه القواعد تصبح مصدرا لمخاطر تتهدد الحياة والحرية بحيث تغدو الدولة نفسها من الأخطار الرئيسية التي تحيق بأمن الإنسان بدلا من أن تكون ضامنة له.[7]

وكما هو معلوم فإن إقرار الحريات العامة عبر تكريس الديمقراطية، ليس مجرد شعارات، بقدر ما يتطلب إرادة سياسية فاعلة، تسعى لإقرار عناصر الديمقراطية عملا وليس تصريحا.

ونشير هنا إلى أنه إذا اختل واحد من العناصر أو فقد، يصبح موضوع الحديث شيئا آخرا لا يمت إلى الديمقراطية بصلة ومن ذلك أنه:[8]

*إذا لم تتوافر حرية الترشح أو الانتخاب، أو تدخلت الحكومات و أجهزتها محاباة لمرشح أو لإفشال مرشح فلا مجال للحديث عن ديمقراطية.

*إذا كان تشكيل الأحزاب السياسية محظورا أو خاضعا لأهواء السلطة التنفيذية، فلا مجال لقيام ديمقراطية أو الحديث عنها.

*إذا لم يرسم دستور الدولة على نحو واضح كيفية ممارسة الدولة لسلطاتها، وحدود كل سلطة من السلطات، ووسائل مساءلتها ومحاسبتها وردها إلى الحدود التي يبنيها الدستور، وحق الرأي العام في التحرك بكل الوسائل القانونية لمساءلة أي سلطة منحرفة ومحاسبتها، فإن النظام السياسي الذي ينظمه هذا الدستور لن يعرف الديمقراطية.

*إذا انحدرت ممارسة السلطة في الدولة إلى استحواذ فرد عليها، بحيث يصبح دور المؤسسات الدستورية مجرد استيفاء للشكل ومقتصرا على السمع والطاعة والتنفيذ، فلا مجال للحديث عن ديمقراطية.

*إذا وجدت القيود على حرية المعارضة، فلا يجوز الحديث عن الديمقراطية.

*إذا قيدت حرية الصحافة أو النشر أو الرأي، أو عقد الاجتماع العام، فلا يجوز أن نتحدث عن الديمقراطية.

*إذا حجبت المعلومات عن الرأي العام، أو قيد حقه في الاطلاع عليها أو التعبير عن رأيه فيها، فلا توجد ديمقراطية.

*إذا قيدت الحريات أو أستثني أحد من الحساب، أو اختل مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، فلا حديث عن الديمقراطية.

*إذا لم يتوافر مبدأ التلازم بين السلطة والمسؤولية أصبحت الديمقراطية غير موجودة.

*إذا اختل مبدأ الإلزام التبادلي، وحرم الشعب أو مؤسساته من حق إلزام السلطة بالقواعد التي تحكمها، مثلما تقوم السلطة بإلزام الشعب بالقواعد التي تحكمه، فليس هناك ديمقراطية.

*إذا تدخلت الحكومة في القضاء أو مارست الضغط عليه بشكل ظاهر أو ضمني، أو كان باستطاعتها أن تضغط على السلطة التشريعية لتشريع قوانين غير دستورية لهذه الحكومات، من أجل أن تمارس الترغيب في تعيين من ترضى عنهم من القضاة في المراكز القيادية في القضاء، أو مارست تلك الحكومات على نحو فعلي الترهيب من خلال الإيحاء لأزلامها في المجالس القضائية بإحالة القضاة الذين لا ترضى عنهم الحكومات إلى المعاش/التقاعد، فإن ذلك يعصف بأي ديمقراطية مدعاة.

واستدلالا على هذا، نجد أن تكريس الديمقراطية الفعلية وليست مجرد ديمقراطية الشعارات الجوفاء، هو ما يمنح النظام القائم شرعية تعزز من قناعة الأفراد به، ومن ثم توفر للدولة تلك الهيبة المرجوة.

وعلى هذا الأساس، نجد أن ماكس فيبر اعتبر أن النظام الشرعي هو الذي يشعر معه مواطنوه، أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة.[9]

أما المفكر برهان غليون فيعتبر أن شرعية النظام تتجاوز قبول الأغلبية من المحكومين لحق الحاكم في الحكم، وتشمل إقرار هؤلاء بموافقة السلطة في صورتها القائمة و أسلوب تداولها وطريقة ممارستها.[10]

فيما يرى الدكتور خميس والي أن الشرعية مرتبطة بتحقيق الحد الأدنى من:[11]

-السيادة.

-المساواة التي تخلق وتبعث الشعور بالوطنية.

-العدالة الاجتماعية.

هذه العناصر الثلاث تدفع بالدراسة إلى ربط مفهوم الشرعية بتحقيق مفهوم الأمن القومي، أي أن السلطة السياسية تكتسب شرعية أكبر كلما حققت إنجازات أكثر في مستويات الأمن القومي، ويمكن قياس ذلك من خلال:

-تحقيق سلامة أراضي الدولة، ووحدتها الإقليمية، وسلامة وأمن مواطنيها.

-استقلالية القرار السياسي للدولة عن الخارج، واعتباره انعكاسا لرغبات المواطنين في الداخل، ومحافظا على قيمهم ومعتقداتهم وساعيا إلى تطويرها.

-تحقيق معدلات متنامية من التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كافة المستويات(الدخل، الصحة، التعليم، المشاركة السياسية،...).

كما أن النظام الديمقراطي الحقيقي، يقوم على الممارسة الفعلية للحقوق التي يضمنها القانون، وتضمنها الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان، كما أن الضمانات التي توفرها الديمقراطية، هي التي تقلل من الضرر الذي يمكن أن ينجم عن تقييد بعض الحريات الفردية التي يفرضها تنظيم المجتمع والدولة.

فالديمقراطية بهذا المفهوم، هي التي تضمن للمواطن حقه في التعبير عن الرأي، وحقه في التجمع والانتماء إلى التيار أو التنظيم الذي يرغب في الانضمام إليه، كما أن حرية التعبير لا تكتمل إلا بحرية الانتخاب التي تهيئ لها وتضمنها حرية الاجتماع والتعبير التي ينبغي أن تستكمل بقواعد اشتغال المؤسسات التي تحول دون التلاعب بالإرادة الشعبية، ودون إعاقة تداول الآراء واتخاذ القرارات، لأنه ليس هناك مبدأ أشد أهمية بالنسبة إلى موضوع الديمقراطية من الحد من سلطة الدولة في مواجهة المواطن واحترام حقوقه الأساسية، فللمواطن حقوقا أساسية كثيرة يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يجب توافرها مهما كانت الخصوصيات الثقافية والحضارية، كما أن النظام الديمقراطي، هو من يوفر أهلية جميع المواطنين لشغل الوظائف العامة، وتمتعهم بالمساواة في مواجهة القانون.[12]

ويعتبر الباحث الحقوقي "هيثم مناع"، الدولة الراهنة بشكلها الحالي لم تعد تمثل طموحات أحد، وصورتها السلبية مزروعة عند الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع. لم يعد بالإمكان العودة إلى نواظم مشتركة عليا دون اعتبار المواطنة، وليس الحكومة، الجامع الوحيد للكيانات المحطمة والدافع الأوحد للاجتماع السياسي. لكن ما معنى المواطنة في غياب الحقوق الفردية والجماعية؟ ما هو مبناها في غياب تعريف واضح للأشخاص بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم؟ هل ارتقينا إلى قبول فكرة الفضاء السياسي والمدني الأوسع الرافض لكل استثناء واستقصاء؟ هل توافقنا على نزع القداسة عن الشأن العام لنتساوى أمام القانون في الوازع والناظم والرادع؟ هل بالإمكان جعل سلامة النفس والجسد شعارا ثقافيا-سياسيا عاما، أي زرع مناهضة التعذيب في الوعي الجماعي؟ هل وضعنا أسس إعادة الروح للسلطة القضائية المحتضرة تحت ضربات الأمن والمتنفذين؟ هل يمكن اعتبار قيام حركة مدنية واسعة شعارا سياسيا يبعث الروح في الحركة السياسية المعارضة والمجتمع الصامت أو المحيّد؟ كل هذه الأسئلة في صلب التجربة الصعبة التي نعيشها. حيث تتماسك أجهزة القمع دفاعا عن بقائها بالحفاظ على كل الخلايا السرطانية في تكوينها، أي تعجز عن التجاوز والخروج من العقل التسلطي والممارسات التسلطية.[13]

ولكن المتأمل للواقع يجد أن بعض الأنظمة ومنها النظام السياسي العربي يقوم على قاعدة مفادها تقييد الحريات ومصادرة الحقوق، بعد أن رأت في حرية حركتها ومجالات نشاطها تهديدا لبقاء النظام واستمراريته، هذا التقييد والمصادرة كان يتم بذريعة الحفاظ على النظام والعمل في حدود القانون.[14]

وهي الأمور الذي خلقت نوعا من العدائية بين المواطن والدولة التي بات يرى فيها أنها النظام، لذا أظهرت التجارب أن الدول العربية في منظور الفرد باتت هو النظام، وعليه يتقاسم كل من النظام والدولة هذا العداء، والذي قد يتطور إلى صيغ أخرى من التعبير عن هذا العداء، مما يعني بصورة أو أخرى أن هيبة الدولة لم يعد لها اعتبار.

ولعل هذا الذي دفع معدو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى تقديم تعريف أكثر شمولية للحكم الجيد، ووصفه بأنه:"ممارسة السلطة الإقتصادية والسياسية والإدارية لشؤون الدولة على كافة المستويات، وتشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يعبر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم القانونية ويوفون وبإلتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل اختلافاتهم.[15]

وانطلاقا مما سبق يمكن تشخيص حالة غياب أو تعثر الديمقراطية في بعض الدول ومنها العربية تحديدا،  وهي الحالة التي أفقدت الفرد التمييز حسب تعبيرنا بين الدولة الوطن والدولة النظام، وهو التداخل الذي حملت الوطنية نصيبا من العداء الذي يكنه الفرد للدولة.

وهو الأمر الذي يجعل الحديث عن الديمقراطية اليوم ليس ترفا فكريا، و إنما هو نابع من الاهتمام بالواقع الصعب وشديد التعقيد، مما يتطلب البحث عن الحلول الناجعة والناجحة التي تضمن معالجته بشكل صحيح، وقد تكون الآليات التي توفرها الممارسة الديمقراطية أحد المداخل المناسبة لمعالجة هذه التحديات، وهي التحديات التي تعرض لها تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2002 لعناوينها الرئيسية، وحددها في "نقص الحرية"، "نقص المعرفة"، و إن كانت هناك تحديات أخرى، قد لاتقل حدة عن التحديات آنفة الذكر، على الرغم من تفرعها عنها في بعض الجوانب الأخرى، والتحديات التي نقصدها هنا شديدة التأثير في الوضع العربي، مما يتطلب معالجتها بشكل استعجالي، ومنها أزمة الفقر، أزمة البطالة، وغيرها ....[16]

كما أن المواطنة باعتبارها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمن تلك العلاقة من واجبات وحقوق تلك الدولة، وهو ما يعني أن المواطنة المكتملة تشكل المضمون الفعلي للممارسة الديمقراطية المعاصرة.

كما أن الإحساس بالمواطنة التي قد تمنح الفرد ثقة في دولته تستدعي توفر شروط حتى تكتمل، ودون هذه الشروط الحديث عن المواطنة مجرد شعارات جوفاء.

وتشمل هذه الشروط وفق الأستاذ علي خليفة الكواري إلى جانب الحقوق القانونية والدستورية وضمانات المشاركة السياسية الفعالة، الحد من الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تمكن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية التقارب في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم ومهارات الوصول إلى المعلومات البديلة، التي تسمح للمواطن بالحصول على المعلومات من مصادر مختلفة متنافسة، كما يجب أن تشمل هذه الشروط حدا أدنى من المسؤولية المجتمعية تجاه تنمية فرص العمل والرعاية الاجتماعية في حالة العجز والبطالة، ومن أجل التعليم والصحة والتنمية الثقافية.[17]

لذا فإن هذه الشروط الذي تعزز من مواطنة الفرد وبالتالي هيبة الدولة، لا تتحقق إلا في نظام يعيش ممارسة ديمقراطية حقيقية وليست مزيفة، لأن المواطنة لا تتحقق إلا في الدول الديمقراطية، بإعتبار هذه الأخيرة هي التي تؤسس وتخلق الأرضية المناسبة للتنمية المستدامة التي يطمح الفرد إلى تحققها.

المبحث الثاني: الحكم الراشد وقياس هيبة الدولة من خلال تكريس الحريات العامة.

 يتفق الجميع على ذلك التداخل بين متطلبات الحكم الراشد ومبادئ الحريات العامة، وهذا انطلاقا من أن ركائز الحكم تعبر في مفهومها عن هامش كبير من الحريات يمنح للفرد والمجتمع المدني، في سبيل تكريس دولة القانون.

وعند ربط موضوع الحريات العامة بهيبة الدولة، فإن هذه الأخيرة تمتلك وسائل تمنح من خلالها للرأي العام والمجتمع الدولي عموما أحقية إمعان النظر في مدى توافر أوليات توافرها مما يهيئ مجالا رحباً لإقامة مؤسسات أكثر قدره على المتابعة والاستمرارية وفق إطار قانوني ثابت من حوله الكثير من المتغيرات الدولية التي تدور حوله وتعود إليه ونستقر عنده ، ويدخل ضمن المحددات الثابتة لمفهوم الحكم الراشد أو الحكم الصالح الذي يمس عمل السلطة السياسية لإدارة شؤون البلاد وعلى جميع المستويات لتحقيق مصلحة الجميع وفق القانون وعلى أساس سيادته فيها.ويأتي معنى الحكم الراشد في تحقيق الغاية المثالية التي تهدف إليها سلطة الدولة من خلال الكثير من الإصلاحات الدستورية وفق أسس اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو قانونية يمن تلمسها من واقع عمل السلطة القابضة على السلطة التي تعمل على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.[18].

و من هنا نجد أن البعض أصل لمتطلبات التنمية في ظل الحكم الراشد تتجلي فيما يلي[19]:

1.    الأولوية للقانون في ظل الشفافية والمشاركة والمساهمة في اتخاذ القرار.

2.    أهمية تمتع النظام بشرعية تستند إلى القبول الشعبي وفاعلية الأداء.

3.    وجود منظمة قيمية تعكس شفافية سياسية تسهم في إزالة الصراعات المحتملة بين الحكام والمحكومين وتحد من استخدام العنف.

4.    ضرورة موائمة الهياكل الاجتماعية والسياسية للمتغيرات الاقتصادية بما يجنب النظام للتعرض لمزيد من الضغوط وعدم الإستقرار.

5.    قابلية السلطة للاستجابة بمرونة وبسرعة لتطورات المجتمع.

6.    الفعالية والمهارة والنوعية في المصالح والخدمات المقدمة.

وانطلاقا مما سبق فإن هذه المتطلبات تستدعي توفر آليات خاصة، تسمى "آليات الحكم الراشد"، وهي العناصر التي أسستها المنظمات العالمية النشطة في مجال تقديم الدول على أساس قوتها من ضعفها والممثلة فيما يلي: المشاركة، حكم القانون، الشفافية، المحاسبة.[20]

أولا: المشاركة:

يربط الكثير آلية المشاركة بالبعد السياسي في موضوع الحكم الراشد، ويجب أن تتاح هذه المشاركة وتتسع لتصبح  حق من حقوق الإنسان في المشاركة في صنع  واتخاد القرار, ويجب أن تبدأ المشاركة السياسية بتوفر القناعة الذاتية بأنها  حق إنساني  يجب أن يمارسه أي فرد رجلاً كان أم إمرة كما إنها تستلزم الإلتزام بالمشاركة في صنع السياسات ومراقبة تنفيذها إذا لم تتاح الفرصة للفرد ليصبح في موقع اتخاذ القرار، فالمشاركة أصبحت منهجاً عالمياً ومدخلاً مهماً لضمانات التنمية واستدامتها ، كما تعتبر المراقبة والتقييم إحدي آليات ممارسة الديمقراطية والشفافية والحكم الراشد، وبذلك تصبح المشاركة السياسية إحدي آليات الفرد لتأكيد حقه في تثبيت المواطنة باعتبارها قضية مركزية ومحورية تستند عليها كل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبدون حق المشاركة تنتفي أولي شروط الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات وضمانات حقوق الإنسان الأخرى.[21]

يمكن لهذه المشاركة أن تكون علي مستويات مختلفة وفي عدة مجالات. وبما أن المشاركة المقصودة في هذه الورقة ذات صلة وثيقة ( بالسياسة ) ودون الخوض في تفاصيل تخص السياسة – فهي مفهوم يخضع للرؤية الفكرية والاجتماعية لمن يتطرق للسياسة وربطها بكافة القضايا الأخرى.

وعلى هذا نجد أن هناك من يربط بين الحق في التنمية والحق في المشاركة الشعبية والتوزيع العادل لفوائد التنمية، وهذا ما يتحقق عن طريق تمكين الناس من أخذ القرار وبالشكل الذي يربط بين الديمقراطية والتنمية عن طريق إيجاد مؤسسات دستورية تعمل على تعميق مشاركة الناس في الشأن العام، كما تلعب المنظمات غير الحكومية دورا مهما بهذا الاتجاه لأنها تملك القدرة على الاتصال والتعامل مع الفئات المهمشة وخرق مركزية الدولة.[22]

ويربط الكثير بين مظاهر غياب المشاركة وبين هيبة الدولة، وهنا يعتبر البعض أن الدول العربية لن تنجح في إقرار دعائمها كدول قوية تحظى بالهيبة والاحترام، إلا إذا استطاعت أن تبني مجتمعا مدنيا متماسكا، وفعالا يكون سندا لها في السراء والضراء وعمادا ترتكز عليه في طموحاتها الحضارية.[23]

ولقد أقرت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ولاسيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية سنة 1966، بالحق في المشاركة في الحياة العامة الذي يتضمن الحق في التجمع السلمي، الحق في تأسيس الجمعيات السلمية، والمشاركة في إدارة الشؤون العامة في البلاد.[24]

فقد جاء في نص المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه:" لكل شخص الحق في حرية الإشتراك في الجمعيات والاجتماعات السلمية."

أما المادة 21 فاعتبرت :"لكل فرد حق الإشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا، -لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد."

أما الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية[25]، فوردت فيها عدة نصوص تعترف بكل صيغ العامة للحق في المشاركة.

فالمادة 21 جاء فيها:" يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به. ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم"

أما المادة 22 فاعتبرت:"لكل فرد حق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.لا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم. ولا تحول هذه المادة دون إخضاع أفراد القوات المسلحة ورجال الشرطة لقيود قانونية على ممارسة هذا الحق. ليس في هذه المادة أي حكم يجيز للدول الأطراف في اتفاقية منظمة العمل الدولية المعقودة عام 1948 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي اتخاذ تدابير تشريعية من شأنها، أو تطبيق القانون بطريقة من شأنها أن تخل بالضمانات المنصوص عليها في تلك الاتفاقية".

ووردت المادة 25 واضحة، وجاءت بصيغة إلزامية، واعتبرت:" كون لكل مواطن، دون أي وجه من وجوه التمييز المذكور في المادة 2، الحقوق التالية، التي يجب أن تتاح له فرصة التمتع بها دون قيود غير معقولة:

1- أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية،
2-أن ينتخب وينتخب، في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين،
3-أن تتاح له، على قدم المساواة عموما مع سواه، فرصة تقلد الوظائف العامة في بلده."

ولكن على الصعيد العملي، تشير الوقائع المنشورة في تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، أن الإنتهاكات التي يتعرض لها هذا الحق تتمثل في الغالب بقمع السلطات الأمنية للإعتصامات أو التجمعات أو التظاهرات.كما تشكل أيضا قرارات الحكومة بمنع التجمعات أو المسيرات أو المظاهرات أو إقامة بعض المهرجانات السلمية، سواء أكانت مهرجانات جماهيرية أو مهرجانات انتخابية في أماكن عامة ببعض الدوائر الانتخابية انتهاكا للحق في التجمع السلمي، كما أن منع عقد بعض الندوات السياسية من قبل القوى الأمنية، وتفريق المجتمعين فيها بالقوة أحيانا، يشكل انتهاكا للحق في التجمع السلمي.مثل ما حدث ولازال يحدث في السودان، حيث تعاملت السلطات ولاتزال تتعامل مع  التظاهرات والتجمعات التي نظمت بالمنع والفض باستخدام القوة والعنف، والتضييق على المشاركين بتلك التظاهرات ومعاقبتهم قضائيا.[26] 

ثانيا: حكم القانون

وهو ما يتجسد من خلال تحقيق مشروعية جميع تصرفات الهيئات الحاكمة ومطابقتها للقانون، الذي وضعته الهيئات المنتخبة الممثلة للشعب من جهة، ومن جهة أخرى يفتح القنوات أمام المواطنين لمناقشة تصرفات الحكام.[27]

وهو يعني كذلك، مرجعية وسيادة القانون على الجميع دون استثناء انطلاقا من حقوق الإنسان بشكـل أساسي.[28]

وينطوي حكم القانون على عنصرين هما حيادية القوانين، ومدى تقيد والتزام المواطنين أو إلزامهم بها، فكلما كانت القوانين حيادية تشريعا وواقعا، كلما استقطبت للعمل والمشاركة الجمهور الكفيل بإطلاق الكفاءات، أما إذا حصل توظيف لماديات التفسير الواسعة لنصوصها القانونية ومجانبة الصواب في ممارستها، وهو ما يحصل على نطاق واسع في المحاكم العربية الجزائية والجنائية والبدائية، فقد عزفت الحقوق عن توجهات الخير العام والسلامة إلا في الظاهر إلى حد ما، و أطلقت الإدارات المختلفة القيود المثبطة لجهود البناء والإنماء بنسب متزايدة، كما أن التقيد بحكم القانون وارتضاؤه منهجا يتطلب من الجمهور الانصياع لنداء الحقوق ولأمر الله والتورع في تغليب المصالح أو الرؤى الخاصة على الأحكام العامة. [29] 

وفي هذا الإطار نجد أن المادة الثانية من الإعلام العالمي لحقوق الإنسان نصت على ما يلي:" كل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود."

كما نصت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن: "الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون. ويجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها لدواعي الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديمقراطي، أو لمقتضيات حرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى، أو في أدنى الحدود التي تراها المحكمة ضرورية حين يكون من شأن العلنية في بعض الظروف الاستثنائية أن تخل بمصلحة العدالة، إلا أن أي حكم في قضية جزائية أو دعوى مدنية يجب أن يصدر بصورة علنية، إلا إذا كان الأمر يتصل بأحداث تقتضي مصلحتهم خلاف ذلك أو كانت الدعوى تتناول خلافات بين زوجين أو تتعلق بالوصاية على أطفال."

لذا نجد أن حكم القانون في ميدان الحكم الراشد، يعني استقلالية الهيئة القضائية عن الهيئتين التشريعية والتنفيذية، ومن جراء عند تحقيق هذه الآلية تؤمن هذه القواعد وبالتالي ترتقي درجة المواطنة إلى مفهوم المساواة بين المواطنين.[30]

ثالثا: الشفافية:

وهكذا أعطت الدول في إطار فلسفة الحكم الراشد نفسا من التنوع والتجديد بإعطاء المجتمع المدني حركية جديدة في إطار الشفافية.

تعتبر الشفافية والمسائلة ركائز أساسية من ركائز الحكم الصالح داخل الهيئات الأهلية بالإضافة لعناصر التمكين والتفويض والمشاركة، حيث يعرف الحكم الصالح داخل المؤسسات المختلفة بأنها " تنطوي في جوهرها على تفويض الجماعة سلطات القيادة لهيئات تمثيلية أصغر مع خضوع هذه الهيئات للمحاسبة، كما تنطوي على تحقيق المشاركة الفعالة للجماعة في التأثير في هذه القرارات، وتمكين القطاعات الأوسع والأكثر تهميشا في سبل المشاركة، بما في ذلك إتاحة المعلومات، والأدوات، والطرق الكفيلة بتحقيق ذلك"[31].

ولايمكن أن تتحقق الشفافية إلا إذا كان هناك جهات تسعى إلى الكشف عن الحقائق واطلاع الجمهور عليها، وهو ما تقوم به وسائل الإعلام.

وهو ما يتجلى من خلال تحقيق حرية الحصول على المعلومات والنفاذ إليها يزيد من إمكانية محاربة الفساد والقضاء عليه، فإمكانية النفاذ إلى المعلومات تعني القدرة على الحصول والوصول إلى المعلومات والبيانات والحقائق أينما كانت. وهذا يعني أن البيئة التي تتوفر فيها القدرة على النفاد إلى المعلومات هي بيئة الشفافية والمكاشفة والمحاسبة وهي عكس بيئة الفساد تماماً حيث يعيش وينمو في ظروف من الغموض والتعتيم وقلب الحقائق التي تساعده على التستر ، كما أن جاهزية المجتمعات القادرة على النفاذ إلى المعلومات هي أفضل بكثير من المجتمعات المحرومة. [32]

ووفقا لتعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من خلال برنامج إدارة الحكم في الدول العربية (POGAR) فإن الشفافية هي ظاهرة تشير الى تقاسم المعلومات والتصرف بطريقة مكشوفة، وهي تقوم على التدفق الحر للمعلومات.[33]

وهي تتيح للمعنيين بمصالح ما أن يطلعوا مباشرة على العمليات والمؤسسات والمعلومات المرتبطة بهذه المصالح، وتوفر لهم معلومات كافية تساعدهم على فهمها ومراقبتها. وتزيد سهولة الوصول الى المعلومات درجة الشفافية.

حيث تنص المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنه : 2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.3. تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة".

إضافة لهذا اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946 القرار 59 (د-1) والذي ينص على "أن حرية تداول المعلومات حق من حقوق الإنسان الأساسية، وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لها... وأن أحد العناصر التي لا غني عنها في حرية الإعلام هو توافر الإرادة والقدرة علي عدم إساءة استعمالها، وأن إحدى قواعدها الأساسية هي الالتزام الأدبي بتقصي الوقائع دون تغرض وبنشر المعلومات دون سوء قصد"[34]

إلى جانب المادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان تنص على أن : لكل إنسان الحق في حرية الفكر والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في البحث عن مختلف أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود سواء أكانت المعلومات شفهية أو كتابية أو مطبوعة،  أو في قالب فني أو بأي وسيلة يختارها.[35]

ونشير هنا إلى أن "الإعلان العالمي بشأن المبادئ الأساسية الخاصة بإسهام وسائل الإعلام في دعم السلام والتفاهم الدولي، وتعزيز حقوق الإنسان" قد أشار في مادته الثانية إلى وجوب ضمان حصول الجمهور على المعلومات عن طريق تنوع مصادر ووسائل الإعلام المهيأة له، مما يتيح لكل فرد التأكد من صحة الوقائع وتكوين رأيه بصورة موضوعية في الأحداث. ولهذا الغرض يجب أن يتمتع الصحفيون بحرية الإعلام وأن تتوافر لديهم أكبر التسهيلات الممكنة للحصول على المعلومات.[36]

وهو ما تضمنه إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية،  الذي اشترط توافر الحكم الرشيد في كل بلد. ويتوقف أيضا على وجود حكم سليم على الصعيد الدولي، وعلى الشفافية في النظم المالية والنقدية والتجارية. ونحن ملتزمون بوجود نظام تجاري ومالي متعدد الأطراف يتسم بالانفتاح والإنصاف وعدم التمييز والقابلية للتنبؤ به ويرتكز على القانون.[37]

وتخصيصا نشير هنا إلى أن الإعلام بالرغم من كونه وسيلة أساسية للتعبير وكشف الممارسات الفاسدة، فقد يكون ضحية حين يمسي أداة للتضليل الإعلامي وترويج النفوذ، لكن حل هاتين المشكلتين لا يكون بزيادة القيود الحكومية، بل بوضع إطار تنظيمي عادل يشجع التنوع ويعزز الشفافية في التمويل والمعلومات.[38]

وفي هذا السياق اعتبر رئيس مجموعة البنك الدولي "جيمس وولفنسون": " أن دراسات البنك الدولي على سبيل المثال تظهر أنه كلما ارتفع مستوى حرية الصحافة في البلدان، زادت السيطرة على الفساد، وبالتالي ازداد توجيه الموارد النادرة إلى قضايا التنمية ذات الأولوية.والصحافة الحرة لا تمثل متنفساً للتعبير عن الرأي فحسب، بل تتيح أيضاً مصدراً للمساءلة، ووسيلة للمشاركة المدنية، والتحقق من الفساد الحكومي. وهي تساعد كذلك على بناء مؤسسات أكثر فعالية وقوة.فمن خلال تشجيع الشفافية والمساءلة في القطاعين العام والخاص، بات ينظر ـ وبشكل متزايد ـ إلى وسائل الإعلام في البلدان الفقيرة على أنها "سلعة تنموية" قادرة على المساهمة في تحسين مساءلة الحكومة، واستخدام الموارد على نحو أكثر فعالية."[39]

رابعا:المحاسبة

تعتبر المسائلة أو المحاسبة ركيزة أساسية من ركائز الحكم الصالح داخل الهيئات الأهلية بالإضافة لعناصر التمكين والتفويض والمشاركة، حيث يعرف الحكم الصالح داخل المؤسسات المختلفة بأنها " تنطوي في جوهرها على تفويض الجماعة سلطات القيادة لهيئات تمثيلية أصغر مع خضوع هذه الهيئات للمحاسبة، كما تنطوي على تحقيق المشاركة الفعالة للجماعة في التأثير في هذه القرارات، وتمكين القطاعات الأوسع والأكثر تهميشا في سبل المشاركة، بما في ذلك إتاحة المعلومات، والأدوات، والطرق الكفيلة بتحقيق ذلك"[40].

ويعتقد البعض أن الوصول إلى أنظمة فاعلة في الدول العربية، يقتضي السير في طريقين في آن معا:[41]

الطريق الأول: أن تقوم النخب السياسية والفكرية بدورها في توعية المواطنين بحقوقهم وحرياتهم في مواجهة سلطات الحكم.

الطريق الثاني: أن يقوم القضاء بممارسة دوره على النحو الذي تستجوبه نصوص الدستور والقانون، عن طريق إصدار أحكام نزيهة وجريئة لفرض كلمة القانون على الحاكم والمحكوم  على حد سواء، وذلك التزاما من كل قاض باليمين الذي أقسمه عند تولى منصب القضاء، بأن لا سلطان عليه إلا ضميره والقانون.

وعليه فتعتبر استقلالية القضاء شرطا أساسيا لضمان فعالية المساءلة السياسية والرقابة الإدارية والمالية، كما أن المتطلبات المؤسسية والتشريعية لاستقلال القضاء حتى يؤدي دورا فعالا في المساءلة والرقابة، تتطلب توافر عناصر أساسية منها: إقرار الدستور صراحة باستقلالية القضاء، وتوسيع مجال المساءلة السياسية بواسطة رقابة دستورية القوانين، وذلك بتمكين المتقاضين العاديين من إثارة عدم دستورية القوانين أمام المحاكم العادية ولو عن طريق الدفع بعدم الدستورية، إن لم يكن بطريق الدعوى الأصلية.

وفي هذا الإطار، تقوم الصحافة بدور السلطة الرابعة إلي جانب السلطات التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية وبالتالي فان توفر المعلومات الدقيقة  حول الأمور المتعلقة  بالمصلحة العامة  هو الوسيلة التي تمكن الجمهور من مراقبة ومحاسبة الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني, لتلبية حق المواطن في الاختيار واتخاذ القرار .

خاتمة:

لقد كان للاختزال الوطن في الدولة آثاره الكارثية المعروفة، وأصبحت إعادة الاعتبار للمواطنة، أي للحق الفردي والجماعة في المشاركة الكاملة في بناء الحاضر والمستقبل مسرب لا بد للخروج من المستنقع . وبالتالي فلابد من تجسيد ذلك الترابط بين الحقوق والديمقراطية باعتبارها وفق تعريفه، جزءا من هذه الحقوق، أي في الصلة الجدلية بين الحقوق والحريات السياسية من جهة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمدنية التي تقرها الشرعية الدولية لحقوق الإنسان كضمانة ضرورة للديمقراطية بعلاتها ونقاط ضعفها.[42]

و قد أظهرت التجارب أن أغلبية الأقطار العربية التي قيل فيها مرارا إن على الحرية السياسية أن تنتظر حتى يتوافر "الخبز" بمعنى إشباع الحاجات الأساسية للمجتمع، لم تستطع توفير "الخبز" لمواطنيها ولم تحفظ لهم حريتهم، حيث أصبح من الواضح الآن، أن معادلة "الخبز" قبل الحرية، قد انتهت إلى افتقاد أكثرية العرب الخبز والحرية معا.[43] 

ولقد صدق الأستاذ هيثم مناع حين اعتبر أن الدولة الراهنة بشكلها الحالي لم تعد تمثل طموحات أحد، وصورتها السلبية مزروعة عند الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع. لم يعد بالإمكان العودة إلى نواظم مشتركة عليا دون اعتبار المواطنة، وليس الحكومة، الجامع الوحيد للكيانات المحطمة والدافع الأوحد للاجتماع السياسي. لكن ما معنى المواطنة في غياب الحقوق الفردية والجماعية؟ ما هو مبناها في غياب تعريف واضح للأشخاص بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم؟ هل ارتقينا إلى قبول فكرة الفضاء السياسي والمدني الأوسع الرافض لكل استثناء واستقصاء؟ هل توافقنا على نزع القداسة عن الشأن العام لنتساوى أمام القانون في الوازع والناظم والرادع؟ هل بالإمكان جعل سلامة النفس والجسد شعارا ثقافيا-سياسيا عاما، أي زرع مناهضة التعذيب في الوعي الجماعي؟ هل وضعنا أسس إعادة الروح للسلطة القضائية المحتضرة تحت ضربات الأمن والمتنفذين؟ هل يمكن اعتبار قيام حركة مدنية واسعة شعارا سياسيا يبعث الروح في الحركة السياسية المعارضة والمجتمع الصامت أو المحيّد؟ كل هذه الأسئلة في صلب التجربة الصعبة التي نعيشها. حيث تتماسك أجهزة القمع دفاعا عن بقائها بالحفاظ على كل الخلايا السرطانية في تكوينها، أي تعجز عن التجاوز والخروج من العقل التسلطي والممارسات التسلطية.[44]

وهو ما تجلى ضعف الفكرة الدستورية في المجال العربي محدودية  الحريات العامة وحقوق الإنسان، وصعوبة احترام المعترف بها دستوريا على صعيد الممارسة، لأسباب ذات صلة بشمولية السلطة ونزعها التسلطي في عموم النظم السياسية العربية، فقد ترتبت العلاقة المتوترة بين الدولة والمجتمع أن اكتسح سلطان السلطة كل مفاصل المجتمعات العربية، وحول هذه الأخيرة إلى مجرد قطع عائمة في بحر امتدادات الدولة والسلطة، أنه تشبيه دقيق أن يصف "تقرير التنمية الإنسانية العربية الثالث للعام 2004" هذا الواقع بدولة الثقب الأسود، في إشارة إلى مركزية الدولة العربية الحديثة وصعوبة تمكنها من بناء علاقة متوازنة مع ما يحيط بها من هيئات ومؤسسات، وهو ما عرض الحريات المتضمنة في الدساتير للإغتصاب بفعل تغول السلطة التنفيذية، لعل في صدارتها الحريات المدنية والسياسية، وقدرة المؤسسات المنتخبة على الفعل الفعلي والفعال في تدبير الشأن العام، وقد ترتب على ذلك، بالضرورة إفقار الحياة السياسية، وإضعاف كفاءة المجتمع المدني وإعاقته على اكتساب المناعة اللازمة لجعله مستقلا، ومؤثرا في الشأن المدني والسياسي.[45]

كما لاتزال الدول العربية بحاجة إلى إعادة ترتيب أولويات الانتماء، مما يسمح بترسيخ فكرة المواطنة في الوعي العربي، إلى دولة عربية مؤسسة على عقد اجتماعي جديد، يؤهلها لأن تصبح إطارا مقبولا وشرعيا للعيش المشترك، أي كيانا حاضنا للمواطنة الكاملة القادرة على توفير شروط الانتماء بكل أشكاله....كما تعتبر المصالحة بين الدولة والمجتمع العربي خطوة مفصلية نحو إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة في الوعي العربي القادم، فحينئذ يدرك المرء أن الدولة بيت الجميع، ويستطيع بذلك تمثل قيمة الانتماء ويحسن بالنتيجة ممارسة ولائه للدولة ككيان اعتباري. [46]

وعليه تبقى الديمقراطية بالأساس شرط للاستقرار، بحكم دورها الفعلي في تعزيز دولة القانون والمؤسسات، وتأمين مجتمع متسامح، تسوده قيم حقوق الإنسان والحريات الأساسية، كما هي أساس التنمية المستدامة، بالمعنى المتصل بها اليوم والمقترن خاصة بتركيز مفهوم المواطنة وتنمية قيم المشاركة الفاعلة للإنسان، بوصفه ركيزة التنمية وغايتها.[47]

وكل هذه المعطيات تدفع بتحقيق متطلبات الحكم الراشد، والذي من خلاله تكتسي الدولة قدسيتها في نظر مواطنيها، وتتحلى بهيبة تعزز من علاقتها مع أفرادها، خاصة و أن التجارب أظهرت أن تعزيز الحريات العامة عبر اعتماد الديمقراطية كآلية حكم، من شأنه أن يعزز من مبادئ المشاركة، الشفافية، المساءلة، حكم القانون، وهي بدورها ركائز الحكم الراشد المنشود.

وآخيرا، لابأس بالإستدلال بالتجربة الرائدة في العالم الإسلامي، ممثلة في دولة ماليزيا، التي استطاعت تقديم نموذج عملي ناجح لدولة عصرية، استطاع نظامها فرض هيبة الدولة داخل تركيبة إثنية وعرقية معقدة.

ولم يكن وليد الصدفة، بقدر ماكان نتيجة رؤية ثاقبة، تجلت انتباه مهاتير محمد إلى أن أي تنمية فى البلاد لن يكون لها النجاح إلا: بالتوحد بين عناصر المجتمع إقتصادياً ومعرفيا، قدر من ا.لديمقراطية، بمساحة من الشفافية.، احترام القانون.

وقد نجح فى توحيد عناصر الشعب الماليزى من مسلمين وصينيين وبوذيين ولقد نص الدستور الماليزي على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مع ضمان الحقوق الدينية للأقليات الدينية الأخرى، لذلك لزم التوحد بين جميع الأطراف، لتسير البلاد كلها من أجل الاتجاه نحو هدف واحد والعمل
وفق منظومة تتكاتف فيها جميع الفئات .

كما أسهمت عدة عوامل متداخلة ومترابطة في تحقيق النهضة الماليزية، من أهمها النظام السياسي، والنهضة الإسلامية التي رافقها سياسة اقتصادية جديدة تمزج بين الخصخصة وتدخل الدولة. فقد استطاع نظامها السياسي الفريد نوعا ما من أن يستوعب التباينات العرقية والدينية والثقافية المكونة للمجمع الماليزي، وبالتالي أن يحافظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي كانت تحتاجه عملية التحديث، من خلال ضمان حقوق جميع الأطراف قانونيا وعمليا بشكل متوازن جعل الجميع يشعرون بأنهم يستفيدون من هذا النظام. وما ميز هذا النظام أيضا حمايته للخصوصية الاثنية والثقافية للأعراق المختلفة، بينما يعمل على غرس المشاعر الوطنية في أذهان المواطنين على اختلاف مشاربهم.[48]

خاتمـــة:

إنّ للملكيّة العقاريّة  دور اجتماعي واقتصادي هام، لذلك تعددت المحاولات التشريعيّة الإصلاحيّة في اتجاه حماية الملكيّة الفرديّة وحفظ حقوق الأفراد، وفي هذا الغرض نشير إلى غزارة النصوص القانونيّة التي نظّمت السجل العقاري بداية بالقانون العقاري الصادر في 01 جويلية 1885 وصولا إلى القوانين المتعلقة بتحيين الرسوم العقارية التي مثلت حلا لمشكلة الرسم العقاري المجمد.

فقد تعددت الأسباب التي زادت في تفاقم وانتشار الرسوم المجمدة التي يمكن وصفا بالرسوم المنتهية أو الرسوم التي توقفت حياتها القانونية فلا يمكن أن تكون قابلة للتداول بين الأشخاص وفي محاولة لمعالجة المشكل تدخل المشرع بمقتضى إصلاحات قانونيّة يمكن اعتبار بعضها من قبيل الآليات الوقائيّة خاصة منها التنقيح الذي شمل الفصل 305 والفصل 377 من مجلة الحقوق العينيّة تكريسا لمبدأ المفعول المنشئ للترسيم، وتدرج آلية التحيين ضمن آليات علاج الرسوم العقارية المجمدة.

والواضح أنّ المشرّع التونسي كان قد اعتمد سياسة مرحليّة في توظيف تجربة التحيين، فكانت في البداية ظرفيّة من الناحية الزمنيّة ومن مشمولات اللجان الجهويّة لتحيين الرسوم العقاريّة ثم أصبحت دائمة وأسندت إلى المحكمة العقاريّة التي كان لها دور مهم في تراجع نسبة الرسوم العقارية المجمدة من خلال تحيينها خاصة في الفترة الممتدة بين سنتي 1994 و2000، لكن يبدو أن تكريس مبدأ المفعول المنشئ للترسيم بمقتضى القانون عدد 39 لسنة 1992 المؤرخ في 27 أفريل 1992 المتعلق بتحيين الرسوم العقارية وتخليصها من الجمود والقوانين المتممة له الصادرة في 10 أفريل 2001 و12 أوت 2009أاااااأ  وإن كان يمثل ضمانا جديدا للحق الملكي فهو ساهم بطريقة غير مباشرة بظهور شكل جديد من أشكال الجمود وهو جمود الرسوم المحيّنة.



[1] وهبة الزحيلي، حق الحرية  في العالم، دار الفكر، سوريا، الطبعة الأولى، سنة 2000، ص.09.  

[2] مازن ليلو راضي، حيدر أدهم عبدالهادي، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، دار قنديل للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، سنة 2008، ص.11-12.

[3] عبد الحسين شعبان، الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي المعوقات والتحديات، أوراق عمل مقدمة حول الإصلاحات السياسية والديمقراطية، ص.05.

[4] إدارة حكم أفضل لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تقرير عن التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المشار إليه في مقال للأستاذ زايري بلقاسم بعنوان تحسين إدارة الحكم ومحاربة الفساد شرطا التنمية المستدامة في الوطن العربي، العدد 358. ديسمبر 2008، ص.50.

[5]ديدي ولد السالك، الممارسة الديمقراطية مدخل إلى تنمية عربية مستدامة، مجلة المستقبل العربي، العدد 386، أكتوبر 2008، ص.25-26.

[6] سليم الحص ومؤلفون آخرون، المساءلة والمحاسبة تشريعاتها و آلياتها في الأقطار العربية، بحوث ومناقشات الندوة التي أقامتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2007، ص.98.

[7] تقرير التنمية البشرية لعام 2009، تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية، ص69.، www. arab-hdr.org

[8] سليم الحص، المرجع نفسه، ص.157-158.

[9] سعدالدين إبراهيم، مصادر الشرعية في أنظمة الحكم العربية، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، سنة 1994، ص.209.

[10] برهان غليون، ردا على سعد الدين، المرجع نفسه، 334.

[11] خميس والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية: تجربة الجزائر ، سلسلة أطروحات الدكتوراه، مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، فيفري 2003، ص.22.

 

[12] ديدي ولد السالك، المرجع السابق، ص.30.

[13] هيثم مناع،  تجديد الخطاب السياسي، www. haythammanna.net

[14] مها المصري، دور النظام السياسي العربي في إعاقة بناء مجتمع معرفة عربي، مذكرة ماجستير في التخطيط والتنمية السياسية، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح، فلسطين، سنة 2005،  ص.ط.

[15] أنظر موقع برنامج إدارة الحكم في الدول العربية، www.pogar.org/arabic

[16] ديدي ولد السالك، المرجع السابق، ص.33.

[17] علي خليفة الكواري، مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية، المشار إليه في مقال ديدي ولد السالك، المرجع نفسه.ص.40.

[18] زياد عبدالوهاب النعيمي، الإصلاحات القانونية وأثرها في تعزيز مفهوم الحكم الراشد، www. nscoyemen.com

[19] عمر فرحاتي، متطلبات الحكم الراشد، مداخلة ألقيت في الملتقى الدولي حول الحكم الراشد، جامعة بسكرة.

[20] محمد خليفة، إشكالية التنمية والحكم الراشد في الجزائر، مداخلة مقدمة للمشاركة في الملتقى  الوطني حول : التحولات السياسية إشكالية التنمية في الجزائر: واقع وتحديات ( 16 – 17 ديسمبر 2008 ) المحور الخامس : دور المجتمع المدني في تحقيق التنمية الإنسانية، المنظم بجامعة الشلف، www.univ-chlef.dz

[21] نعمات محمد كوكو، المرأة والمشاركة السياسية، المشار إليه المشار إليه التحول الديمقراطى وقضايا المرأة السودانية

المشاركة السياسية (نموذجا)، أنظر مواقع الراصد النسوي، www. womendw.org

[22] محمد فائق، حقوق الإنسان والتنمية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد251، جانفي 2000، ص.103.

[23] أحمد خروع، دولة القانون في العالم العربي-الاسلامي بين الأسطورة والواقع، ديوان المطبوعات الجامعية، سنة 2004، ص.92.

[24] سعدي محمد الخطيب، حقوق الإنسان بين التشريع والتطبيق، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت،  الطبعة الأولى 2009، ص.130.

[25] اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ في 16 كانون/ديسمبر1966 تاريخ بدء النفاذ: 23 آذار/مارس 1976، وفقا لأحكام المادة 49

[26] سعدي الخطيب، المرجع السابق، ص.133-134.

[27] مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، فيفري2008، ص.8.

[28] مجلة المستقبل العربي، عدد نوفمبر 2004، ص.47.

[29] نوفل قاسم علي الشهوان، مقومات الحكم الراشد في استدامة التنمية العربية، مطبوعات مركز الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، العراق، www. regionalstudiescenter.net

[30] محمد خليفة، المرجع السابق، ص.3.

[31]  محمد العجاتي،  قانون الجمعيات في مصر وتأثيره على قدرات المجتمع المصري، المركز الدولي لقوانين المنظمات غير الهادفة للربح، لبنان، 2006، ص.04.

[32] علي البريهي، حرية المعلومات والنفاذ إليها من منظور المجتمع المدني والإعلام، ورقة عمل مقدمة  إلى ورشة العمل التدريبية لمحاربة الفساد مطبوعات مركز U4 لمكافحة الفساد، ص.1.

[33] برنامج إدارة الحكم في الدول العربية،www.pogar.org

[34] الشبكة العربية لحقوق الإنسان، www.anhri.net

[35]  المرجع نفسه.

[36] أصدره المؤتمر العام لمنظمة اليونيسكوا، بتاريخ 28 نوفمبر 1978، أنظر موقع المنظمة على الانترنت.

[37] البند 13، من إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية.

[38]  سليم الحص ومؤلفون آخرون، المرجع السابق، ص.150.

[39] جيمس ولفنستون، مقال حرية الصحافة تساعد على الفقر، www.worlbank.org

[40]  محمد العجاتي،  المرجع السابق، ص.04.

[41] سليم الحص، المرجع السابق، ص.160.

[42] منصف المرزوقي، الاستقلال الثاني، نحو الدولة العربية الديمقراطية الحديثة،ص.2.  http://www.achr.nu/

 

[43] ديدي ولد السالك، المرجع السابق، ص.28.

 

[44] هيثم مناع، المرجع السابق.

[45] امحمد المالكي، المواطنة بين الدولة والمجتمع، المشار إليه في المساءلة والمحاسبة، سليم الحص، المرجع السابق، ص.63.

[46] سليم الحص، المرجع السابق، ص.71.

[47] ديدي ولد السالك، المرجع السابق، ص.29-30.

[48] محمد أبوغزالة، السياسة الداخلية الماليزية: عوامل التطور والنجاح، مجلة علوم انسانية، http://www.ulum.nl


إرسال تعليق

0 تعليقات