آخر الأخبار

Advertisement

التأسيس لمصدرية الشريعة للقانون في الدساتير الموريتانية - الدكتور محمد عبد الجليل الشيخ القاضي- العدد 42 من مجلة الباحث - منشورات موقع الباحث القانوني


 التأسيس لمصدرية الشريعة للقانون في الدساتير الموريتانية - الدكتور محمد عبد الجليل الشيخ القاضي- العدد 42 من مجلة الباحث - منشورات موقع الباحث القانوني


لتحميل العدد بصيغته الرقمية pdf اليكم الرابط أذناه:






الدكتور محمد عبد الجليل الشيخ القاضي

 رئيس مركز نواكشوط للدراسات القانونية - أستاذ متعاون بجامعة العلوم

    الإسلامية بالعيون وبجامعة نواكشوط-موريتانيا

    التأسيس لمصدرية الشريعة للقانون في الدساتير الموريتانية: الدلالة والحمولة الدستورية

Instauration de la source charia du droit dans les constitutions mauritaniennes

 مقدمة:

 حرصت أغلب دساتير الدول الإسلامية في العصر الحديث على دسترة مقتضيات تحدد الهوية الدينية للدولة والشعب، باعتبار كل أو غالبية مواطني الدولة يعتنقون الديانة الإسلامية. وقد تفاوتت هذه الدساتير في طريقة دسترة المسألة الدينية، فبعضها اكتفى بالتنصيص على أن الإسلام دين الدولة كما هو الحال بالنسبة للدستور التونسي 2014 [1] والدستور الأردني 1952 [2] والدستور الجزائري 1996 المعدل[3]، بينما أضافت بعض الدساتير الأخرى مقتضى تحديد "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للقانون مثل الدستور المصري 2014[4]والدستور الكويتي 1962[5]، والدستور السوري 2012[6] حيث أكدت هذه الدساتير أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقانون.

    أما فيما يخص الحالة الموريتانية فيمكن التفريق بين الدساتير الثلاثة التي عرفتها البلاد: ففي مرحلة تجربتي دستور 1959 و1961 استعرضت مضامين هذين الدستورين الهوية الدينية الإسلامية بطريقة خجولة، حيث اكتفى كل منهما بالحديث عن المسألة الدينية  بإدراجها ضمن المبادئ العامة التي يتمسك بها الشعب الموريتاني لضمان سيادته على حوزته الترابية وحرية تقدمه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ( مثل المبادئ الديمقراطية الواردة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر 1789 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 1948 ودستوري فرنسا الصادرين 1948 و1958).

    بيد أنه بخصوص التجربة الدستورية الثالثة التي أقرت وثيقتها في 20 يوليو1991 فقد كانت محددات معالم الهوية الدينية للدولة والشعب مبوب عليها بشكل صريح في فقرات الديباجة ومواد متن الدستور، بل وصل الأمر إلى حد التأسيس لمبدأ حصر مصادر القانون في أحكام الشريعة الإسلامية، رغم مانصت عليه مقتضيات دستورية من الإحالة على مصادر أخرى كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والاتفاقيات الدولية المصادق عليها.

    في ضوء ما سبق تتنزل إشكالية هذه الدراسة لتحاول البحث في إمكانية التوفيق بين المقتضى الدستوري الذي يحصر مصادر القانون في الشريعة الإسلامية من جهة والمقتضيات الدستورية التي تكرس مرجعية مصادر أخرى للقانون الموريتاني من جهة ثانية.

    ولمحاولة دراسة أهم الجوانب المرتبطة بالإجابة هذه الإشكالية وما يتفرع عنها من أسئلة فرعية ستتم معالجة هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور، يتناول الأول منها تطور المسألة الدينية في الدساتير الموريتانية، في حين سيخصص الثاني للحمولة الدستورية لتكريس مصدرية الشريعة لقانون، بينما يتناول المحور الثالث الآثار المترتبة عن التمسك الحرفي بمبدأ أحادية مصدرية الشريعة للقانون.

المحور الأول: تطور المسألة الدينية في الدساتير الموريتانية

     إن المتتبع للتجارب الدستورية والمواثيق العسكرية التي عرفتها موريتانيا يلاحظ أنها لم تكن على درجة واحدة من حيث الاهتمام بالمسألة الدينية سواء من حيث التأكيد على أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للجمهورية او من حيث تناول موضوع مصدرية الشريعة الإسلامية للقانون، وغير ذلك من المبادئ المؤكدة على المرجعية الإسلامية للدولة. وهو ما سيتضح من خلال الآتي:

أولا: المسألة الدينية في دستوري 1959 و1961

     تحرص الدساتير في الدول الإسلامية على دسترة المسألة الدينية واستعراض مصدرية أحكام الدين الإسلامي[7] للقانون في ديباجتها. غير أنه بقراءة تركيبية لديباجة كل من الدستورين اللذين عرفتهما موريتانيا سنتي 1959 [8] و1961 نلاحظ أن مضامينها جاءت خالية من أية إشارة لمصدرية الشريعة الإسلامية للقانون.

      وإذا كان يمكن القول إن خلو دستور 1959 من مقتضى مصدرية الشريعة القانون قد يكون متفهما نظرا لوضع هذا الدستور في فترة مازالت البلاد تخضع للسيادة الفرنسية، فإن الأمر يبدو مستغربا بخصوص دستور 1961 [9] الذي تحاشى في ديباجته ذكر الهوية الدينية الإسلامية للشعب على وجه التحديد والتخصيص. ولايبدو من المجانف للصواب القول بأن المشرع الدستوري تحاشى التبويب على ذلك عن قصد حتى يرتب عليه مقتضى دستوري آخر تضمنته المادة الثانية من نفس الدستور، والتي أكدت في فقرتها الثانية على أن الجمهورية تضمن للجميع حرية المعتقد والحق في ممارسة الشعائر الدنية.

     هذا التوجه الذي نحاه المشرع الدستوري في دستور الاستقلال الصادر 20 مايو 1961 والذي ربما يتغيا طمس الهوية الدينية الإسلامية حصرا لشعب الجمهورية أشفع كذلك بمقتضى يساهم هو لآخر في طمس هويته اللغوية والثقافية، وذلك بتأكيد المادة الثالثة من نفس الدستور على أن "اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للدولة"، وتم إغفال أي ذكر للغة العربية سواء من حيث اعتبارها اللغة الرسمية الأولى أو حتى مجرد لغة ثانية، واستمر هذا الوضع إلى ان تم تعديل هذه المادة  (أي المادة الثالثة) سنة 1968 لتبوب على أن اللغة العربية تعتبر لغة ثانية[10].

   لقد استمر العمل بدستور 1961 حتى انقلاب العاشر من يوليو 1978 الذي ترتب عنه إلغاء العمل بالدستور وحل كل المؤسسات المنبثقة عنه، وصدرت خلال الفترة الفاصلة بين 1978 و1985 عدة مواثيق دستورية أصدرتها اللجان العسكرية التي تعاقبت على الحكم خلال هذه الفترة، لكن هذه المواثيق لم تعر مسألة مصدرية الشريعة الإسلامية للقوانين أي اهتمام يذكر. بيد أنه بحلول سنة 1985  تم طرح مصدرية الشريعة الإسلامية للقانون بقوة، حيث حرصت اللجنة العسكرية الممسكة بزمام الحكم وقتئذ على التنصيص بشكل صريح في الميثاق الدستوري الذي صدر خلال هذه السنة (أي سنة 1985) على أن أحكام الدين الإسلامي هي المصدر الوحيد للقانون. وتم الاحتفاظ بهذا المقتضى الدستوري ليتم إثباته في ديباجة دستور 20 يوليو 1991.

ثانيا: مكانة المرجعية الإسلامية في هندسة دستور 1991[11]

     بقراءة متأنية للدستور الموريتاني لسنة 1991 نلاحظ أن المرجعية الإسلامية كانت حاضرة في ذهن المشرع الدستوري وهو يصوغ مضامين الدستور؛ فمن حيث القالب الشكلي حرص المشرع على افتتاح كتابة النص الدستوري بإيراد "البسملة"(بسم الله الرحمن الرحيم) في أعلى الصفحة الأولى من الوثيقة الدستورية، ولايخفى ما لهذا المعطى من دلالة رمزية تعطي انطباعا عاما بأن المضامين الدستورية كتبت تحت "رقابة" المرجعية الإسلامية.

    أما فيما يتعلق بالنص الدستوري نفسه فقد استهل المشرع الدستوري الفقرة الأولى من ديباجة الدستور باتكال الشعب الموريتاني على "الله العلي القدير"، وفي الفقرة الثانية تم التأكيد على إعلان تمسك الشعب بالدين الإسلامي، فضلا عن ذلك أكدت الفقرة الثالثة احترامه "لأحكام الدين الإسلامي الذي هو المصدر الوحيد للقانون".

     وهكذا لم يكتف المشرع الدستوري بهذه الإشارات الموغلة في المرجعية الإسلامية المتضمنة في فقرات الديباجة، بل خصص المادة الأولى من متن الدستور لتعريف موريتانيا بأنها: "جمهورية إسلامية...". ونفس هذا المعطى التوصيفي أكدت عليه المادة الخامسة (5) من نفس الدستور بنصها على أن " الإسلام دين الدولة والشعب". وفي نفس المنحى يمكن أن نشير إلى ما تضمنته المادة 23 (من نفس الدستور) من اشتراط أن تكون ديانة رئيس الجمهورية هي الدين الإسلامي[12].

    علاوة على ذلك نجد المشرع الدستوري في دستور 1991حرص على تحاشي دسترة مسألة الحرية الدينية او حرية المعتقد على خلاف سلفه دستور 1961 الذي كان يكرس بصريح العبارة الحق في حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية[13].

المحور الثاني: مصدرية أحكام الدين الإسلامي للقانون: الدلالة والحمولة الدستورية

 حرص المشرع الدستوري الموريتاني على إدراج مبدأ مصدرية أحكام الدين الإسلامي للقانون في ديباجة دستور 1991، وهو ما يقتضي منا بدءا استعراض مدلولات مفردات هذا المبدأ، ثم تناول القيمة القانونية للديباجة وموقع مقتضياتها من مضامين متن الدستور.

أولا: مدلول المصدر

      يحيل مصطلح "المصدر" إلى مفاهيم متعددة، فهناك (المصدر المادي) و(المصدر التاريخي) و(المصدر الرسمي) و(المصدر التفسيري).

1-المصدر المادي او الموضوعي:

      يقصد بالمصدر المادي أو الموضوعي العناصر الأولية المكونة لجوهر القاعدة القانونية ومضمونها والمتمثلة في عناصر البنية الاجتماعية العقائدية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية والتاريخية.

2-المصدر التاريخي:

ويقصد به الأصول التاريخية التي تستقي منها القواعد القانونية أحكامها.

3-المصدر الرسمي

ويقصد به السلطة التي تعطي للقواعد القانونية قوتها الملزمة[14]، أو بمعنى آخر  الشكل الذي تظهر عليه القواعد القانونية بما يجعلها قانوناً واجب الإتباع من خلال صدورها من طرف هيأة مختصة وبعد إتباع إجراءات معينة، وإذا كان المصدر المادي يتمحور حول جوهر القاعدة القانونية فإن الوسيلة التي تعبر عن الجوهر وتجعله قانوناً واجب الاحترام وهذا الطابع الإلزامي هو الذي يميز المصادر الرسمية عن غيرها من المصادر[15].

4-المصدر التفسيري

يقصد به المرجع الذي يجلو غامض القانون ويوضح مبهمه[16]، ومن أبرز المصادر التفسيرية الآراء الفقهية والاجتهادات القضائية.

ثانيا: مدلول أحكام الدين الإسلامي

    بالاطلاع على دساتير الدول الإسلامية نلاحظ أنها لم تتفق على صياغة اصطلاحية موحدة عندما اتجهت نحو دسترة مرجعيتها الإسلامية، فبعضها يستخدم مصطلح "الشريعة الإسلامية"[17] وبعضها يستخدم مصطلح "الدين الإسلامي"[18]، في حين اعتمد البعض الآخر مصطلح "الفقه الإسلامي"[19].

     وقد درج علماء المسلمين على استعمال تعبير "أحكام الدين"  و"الشريعة الإسلامية" لترادف ما يحيلان إليه من معان، أي ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من أحكام سواء منها مايتعلق بعلاقة الإنسان بربه أو بغيره أو بنفسه. أما مصطلح "الفقه" فيعتبر أضيق نطاقا من تعبير " أحكام الدين أو الشريعة الإسلامية" إذ يرتبط موضوعه أساسا بالعبادات والمعاملات.

    عطفا على ما تقدم نلاحظ أن المشرع الدستوري الموريتاني على غرار بعض نظرائه في الدول الإسلامية، اعتمد مصطلح "أحكام الدين الإسلامي هي المصدر الوحيد للقانون"، وهذا الصياغة بإضافة الألف واللام إلى المصدر (حسب رأي الأستاذ سليمان الطماوي) لها دلالة حتمية: "وهي أن كل تشريع قائم وقت صدور هذا النص ويتعارض مع حكم قطعي الثبوت والدلالة في الشريعة الإسلامية يعتبر غير دستوري"[20].

    غير بعض أساتذة القانون الدستوري في موريتانيا طرح فرضية أخرى مرتبطة بسؤال: هل هذه الإحالة على "أحكام الدين الإسلامي" تعتبر إحالة قانونية صرفة أم أنها مجرد إحالة سياسية؟

يرى الأستاذ أحمد سالم ببوط أن إحالة ديباجة الميثاق الدستوري لسنة 1985 إلى أحكام الدين الإسلامي باعتباره المصدر الوحيد للقانون (والتي تم التأكيد عليها في ديباجة دستور 20 يوليو 1991) لها بعد سياسي أكثر من كونها تجسد بعدا قانونيا محضا: " فهي مقتضيات تتضمن مبادئ وصفية تبين بشكل مختصر اتجاه مجموع القوانين التي يتكون منها القانون الوضعي في موريتانيا أكثر من كونها قواعد قانونية حقيقية"[21].

    ويؤيد هذا الاتجاه الأستاذ محمد محمود ولد محمد صالح الذي ذهب إلى القول بالإحالة التي وردت في ديباجة الميثاق الدستوري لسنة 1985 (وأكدت عليها ديباجة دستور 1991) ذات قيمة معنوية أو أدبية أكثر من كونها قانونية بحجة أن الكثير من دساتير الدول العربية تتضمن إشارات من هذا القبيل[22].

وإذا سلمنا مبدئيا بأن هذه الإحالة تدستر قواعد قانونية ثابتة فما هي القيمة الدستورية والقانونية للمقتضيات والمبادئ التي تتضمنها الديباجة؟

ثالثا: المكانة الدستورية والقانونية للديباجة

     أثير جدل فقهي كبير حول القيمة القانونية للديباجة، فهل لها نفس القوة القانونية لمواد الدستور أم أن قوتها تفوق متن الدستور؟ أم أنها مجرد مقدمة تتضمن مبادئ عامة ذات قيمة معنوية أكثر من كونها لها قيمة قانونية؟

    ظلل هذا الجدل سائدا في الكثر من الدول التي لم يحسم المشرع الدستوري فيها بشكل صريح مكانة الديباجة من متن الدستور. ففي فرنسا مثلا لم يحسم هذا الجدل إلا بقرار المجلس الدستوري الصادر بتاريخ 12/01/ 1977 الذي قضى بعدم دستورية قانون تفتيش السيارات الخصوصية باعتبار ذلك مناقض لمبدأ احترام الحريات الفردية المؤكد عليها في ديباجة دستور 1958.

      بخصوص الحالة الموريتانية فقد ثار نقاش فقهي حول موضوع القيمة الدستورية للديباجة بعيد إقرار دستور 20 يوليو 1991، نظرا لتحاشى المشرع مسألة حسم موقع الديباجة من النص الدستوري، حيث اعتبر البعض بأن الأحكام التي تتضمنها ليست بمثابة قواعد قانونية حقيقية، بينما ذهب آخرون إلى القول بأن الديباجة جزء لايتجزأ من الدستور بل إنها هي النص الأساسي فيه[23].

    ويمكن القول إن هذا الجدل تم حسمه بقرار المجلس الدستوري الموريتاني رقم 006-2009 المتعلق بقضية التحقق من شغور منصب رئيس الجمهورية، حيث أسس المجلس إحدى حيثيات هذا القرار على قاعدة "جلب المصالح ودرء المفاسد" التي تعتبر من قواعد الشرعة الإسلامية التي أكدت ديباجة دستور 1991على أنها هي "المصدر الوحيد للقانون".

     وبهذا القرار يكون المجلس الدستوري حسم موقع الديباجة وقيمة المبادئ التي تتضمنها، وذلك بتأسيس قراره عليها كما هو الحال مع مواد باقي متن الوثيقة الدستورية. وفضلا عن ذلك نجد المشرع الدستوري في المراجعة الدستورية الأخيرة سنة 2017 عندما استعرض التمهيد المحدد للمواد التي سيطالها التعديل، أكد أن المادة الأولى منه تقضي بتعديل بعض مقتضيات الديباجة، وهو مايحيل إلى القول بأن المشرع لايفرق بين الديباجة والمتن فلهما نفس القيمة والقوة ومسطرة تعديل مقتضياتهما واحدة.

المحور الثالث: الآثار المترتبة على التفسير الحرفي لأحادية مصدرية الشريعة للقانون

لاشك أن التمسك الحرفي بمبدأ أحادية مصدرية الشريعة للقانون قد يطرح بعض الصعوبات على مستوى التنزيل والممارسة القضائية، وهو ما يبدو أن المشرع الدستوري حاول الحد منه من خلال دسترة الإحالة إلى العديد من التشريعات الدولية. وإذا كان موضوع القيمة القانونية للديباجة أصبح متجاوزا نظرا لحسمه من قبل القضاء الدستوري الموريتاني وكذلك القضاء الدستوري المقارن، فإن مبدأ حصر مصادر القانون في الشريعة الإسلامية، فحسب، يطرح بعض الإشكالات على مستوى التفسير الحرفي لحمولة ماتحيل إليه هذه الإحالة التي تكرس أحادية المصدر، خاصة وأن المشرع استخدم عبارة "أحكام الدين الإسلامي المصدر الوحيد للقانون".

   في هذا الصدد يمكن القول إنه كان حريا بالمشرع الدستوري أن يستخدم عبارة " المصدر الرئيسي للقانون" بدل "المصدر الوحيد..."، فذلك أكثر دقة وانسجاما مع ماتفرضه تفاعلات العصر الحالي من مسايرة للوجهات التشريعية الحديثة في حدود ما لايتناقض بشكل قطعي مع أحكام الشريعة الإسلامية، وحتى لايحصل عدم تماسك بين المقتضيات الدستورية التي تضمنتها الديباجة، حيث حرص المشرع من ناحية أخرى على أن يضمن بعض فقراتها الإحالة على مرجعيات أخرى كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية المصادق عليها.

   انطلاقا مما سبق تبدو عبارة " المصدر الرئيسي..." أكثر استيعابا لإمكانية تعدد المصادر ولو كان بعضها ثانويا، كما أنها قد تسعف القاضي في اللجوء إلى هذه الأخيرة (أي المصادر الثانوية) عندما يريد البت في قضية معروضة عليه، والحال أن مقتضيات النص التشريعي المتعلق بالقضية محل النزاع لاتتطابق بشكل كلي مع أحكام الشريعة الإسلامية لكنها في نفس الوقت لاتتعارض معها بشكل قطعي.

    وهنا تجدر الإشارة إلى أن القاضي لايستطيع من تلقاء نفسه أن يمتنع عن تطبيق القانون[24] ولو كان ذلك بحجة مخالفة القانون للشريعة الإسلامية؛ إذ من الواضح أن هذه السياسة القضائية تصطدم مع القواعد العامة التي تحكم الوظيفة القضائية من حيث التزام القاضي بطلبات ودفوع الأفراد[25]، كما أن هذه السياسة تتعارض مع قواعد قانونية صريحة قي هذا الشأن كرستها القوانين المتعلقة بالنظام الأساسي للقضاء[26] وإجراءات المرافعات المدنية والتجارية والإدارية[27] وقانون الالتزامات والعقود[28] وكذلك القانون الجنائي؛ إذ يعتبر امتناع القاضي عن تطبيق القانون إنكار للعدالة وهو ما قد يستوجب عزله بمرسوم بناء على تقرير من وزير العدل، غير أنه في المقابل يبقى حق القاضي في الاستقالة محفوظ إذا شعر بأنه لايستطيع الاستمرار في تطبيق قانون بعينه[29].

خلاصة:

    رغم ما يحيل إليه مبدأ اعتبار "أحكام الدن الإسلامي المصدر الوحيد للقانون" الذي تضمنه الفقرة الثالثة من ديباجة الدستور الموريتاني لسنة 1991، المعدل، ( النافذ حاليا) من تكريس حصري لمصادر القانون الموريتاني في أحكام الشريعة الإسلامية، فإننا نلاحظ  أن المشرع الدستوري أحال في الفقرة الثانية من نفس الديباجة على مصادر أخرى مثل المبادئ الديمقراطية الوارد تحديدها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 10 ديسمبر 1948والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر 1981 والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا، وهو يجعل من غير المنافي للصواب القول بأنه كان حريا بالمشرع الدستوري أن يستخدم عبارة " أحكام الدين الإسلامي المصدر الرئيسي للقانون" حتى يترك نافذة لمصادر أخرى يستقي منها القانون الموريتاني الكثير من أحكامه ويؤسس عليها بعض مقتضياته.

   فضلا عن ذلك أكدت مقتضيات دستورية أخرى من نفس الدستور على أن الشعب هو مصدر كل سلطة[30] وأن القانون هو التعبير الأعلى عن إرادة الشعب[31]. وهو ما يفهم منه أن حرص المشرع الدستوري على دسترة هذه المبادئ، والتي لاتتطابق بشكل كامل مع ما تقرره مقتضيات الشريعة الإسلامية في هذا المضمار، يفيد بأخذه بعين الاعتبار تعدد مصادر القانون الموريتاني.

     وهكذا يمكن أن نخلص إلى القول بأن إحالة المشرع الدستوري على تلك المبادئ التي تكرسها التشريعات الدولية إلى جانب أحكام الدين الإسلامي يستشف منه حرصه على تبني مبادئ تزاوج بين المرجعية الإسلامية والمفاهيم الليبرالية الغربية وكذلك مفاهيم الاشتراكية المجسدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 1981، خصوصا مع تأكيد المادة الأولى من الدستور على أن "موريتانيا جمهورية إسلامية ديمقراطية واجتماعية".

 

 

 

 

 

 

 

لائحة المراجع:

أولا: باللغة العربية

1-الكتب

-بدر خان إبراهيم، الحريات العامة في موريتانيا، مؤسسة سعيدان للطباعة والنشر-سوسة تونس، 1997.

-سليمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي-القاهرة، الطبعة السابعة، 2012.

-عبد الحميد متولي, الشريعة الإسلامية كمصدر اساسي للدستور, ط1, منشأة المعارف, الاسكندرية, بدون سنة نشر.

-عبد الرزاق أحمد السنهوري، علم أصول القانون، مطبعة فتح الله الياس-مصر، سنة النشر 1936.

2-النصوص القانونية

الدساتير:

- دستور 22 مارس 1959، الجريدة الرسمية، السنة 1، عدد خاص، بتاريخ 13 مايو 1959.

-دستور 1961 الصادر  بموجب القانون الدستوري رقم 95-61، الجريدة الرسمية، عدد 59، الصادر بتاريخ 03 يونيو 1961.

- دستور 20 يوليو 1991 الصادر بموجب الأمر القانوني رقم 022-91 المتضمن دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، الجريدة الرسمية الموريتانية، عدد 763، بتاريخ 30 يوليو 1991، والمراجع بموجب القوانين الدستورية التالية:

-القانون الدستوري الاستفتائي رقم 021-2017- الجريدة الرسمية، عدد 1393، بتاريخ 15/ 08/ 2017. والقانون الدستوري الاستفتائي رقم 022-2017، الجريدة الرسمية، عدد 1393، مكرر بتاريخ 15/ 08 / 2017.

-القانون الدستوري رقم 2012-015 الصادر بتاريخ 20 مارس 2012، الجريدة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، عدد 1226، بتاريخ 30 إبريل 2012.

-القانون الدستوري رقم 014- 2006 الصادر بتاريخ 12 يوليو 2006 المتضمن تعديل بعض أحكام دستور 20 يوليو 1991، الجريدة الرسمية، عدد 1122، بتاريخ 15 يوليو 2006.

القوانين

-القانون النظامي رقم 94-012 المتضمن النظام الأساسي للقضاء المعدل بالأمر القانوني رقم 2006-016 الصادر بتاريخ 12 يوليو 2006 والمعدل كذلك بالقانون النظامي رقم  2020-031 الصادر بتاريخ 08 دجنبر 2020.

-القانون رقم 99-35 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية.

-الأمر القانوني رقم 89-126 الصادر بتاريخ 14 دجنبر 1989 المتضمن قانون الالتزامات والعقود، المعدل.

ثانيا: باللغة الفرنسية

-Ahmed Salem Boubout, Regards sur la chart constitutionnel du 09 février 1985 "RMDE" Numéro2, 1987,

-Mohamed Mahmoud Mohamed Saleh quelques aspects de la reception du droit Français en Mauritanie, RMDE numero 5 ,1985.

 



[1] ينظر الفصل الأول من الدستور التونسي لسنة 2014.

[2]  انظر المادة الثانية من الدستور الأردني.

[3] المادة الثانية من الدستور الجزائري. لسنة 2020.

[4] المادة الثالثة من الدستور المصري 2014.

[5] المادة الثانية من الدستور الكويتي.

[6] الفصل الثالث من الدستور السوري لسنة 2012.

[7] وتارة يستخدم بعض  هذه الدساتير عبارة " الشريعة الإسلامية" أو " الفقه الإسلامي".

[8] - دستور 22 مارس 1959، الجريدة الرسمية، السنة 1، عدد خاص، بتاريخ 13 مايو 1959.

[9] دستور 1961 الصادر  بموجب القانون الدستوري رقم 95-61، الجريدة الرسمية، عدد 59، الصادر بتاريخ 03 يونيو 1961.

[10] -راجع المادة الثالثة من دستور 1961 ( بعد التعديل).

[11]- دستور 20 يوليو 1991 الصادر بموجب الأمر القانوني رقم 022-91 المتضمن دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، الجريدة الرسمية الموريتانية، عدد 763، بتاريخ 30 يوليو 1991، والمراجع بموجب القوانين الدستورية التالية:

-القانون الدستوري الاستفتائي رقم 021-2017- الجريدة الرسمية، عدد 1393، بتاريخ 15/ 08/ 2017. والقانون الدستوري الاستفتائي رقم 022-2017، الجريدة الرسمية، عدد 1393، مكرر بتاريخ 15/ 08 / 2017.

-القانون الدستوري رقم 2012-015 الصادر بتاريخ 20 مارس 2012، الجريدة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، عدد 1226، بتاريخ 30 إبريل 2012.

-القانون الدستوري رقم 014- 2006 الصادر بتاريخ 12 يوليو 2006 المتضمن تعديل بعض أحكام دستور 20 يوليو 1991، الجريدة الرسمية، عدد 1122، بتاريخ 15 يوليو 2006.

[12]-تنص المادة 23 من دستور 1991 على ما يلي: "رئس الجمهورية رئيس الدولة والإسلام دينه".

[13] راجع المادة الثانية من دستور 1961، مرجع سابق.

[14] انظر: عبد الرزاق أحمد السنهوري، علم أصول القانون، مطبعة فتح الله الياس-مصر، سنة النشر 1936،  ص: 53.

([15]) راجع: د. عبد الحميد متولي, الشريعة الإسلامية كمصدر اساسي للدستور, ط1, منشأة المعارف, الاسكندرية, بدون سنة نشر، ص: 19-20.

[16] عبد الرزاق أحمد  السنهوري، علم أصول القانون، مرجع سابق، ص 53.

[17] مثل الدستور المصري لسنة 2014، (المادة الثانية منه.)

[18] مثل ديباجة   الدستور الموريتاني لسنة ، المعدل، 1991 النافذ حاليا.

[19] مثل الدستور السوري لسنة 2012 ( المادة الثالثة منه).

[20] راجع سليمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي-القاهرة، الطبعة السابعة، 2012، ص15.

[21]-Ahmed Salem Boubout, Regards sur la chart constitutionnel du 09 février 1985 "RMDE" Numéro2, 1987, P32.

[22] Mohamed Mahmoud Mohamed Saleh quelques aspects de la reception du droit Français

en Mauritanie, "RMDE" Numéro 5 ,1985, p16.

[23] -للتفصيل أكثر، راجع بدر خان إبراهيم، الحريات العامة في موريتانيا، مؤسسة سعيدان للطباعة والنشر-سوسة تونس، 1997، ص 16.

[24] تنص المادة 98 من دستور 20 يوليو 1991 على مايلي: "لا يخضع القاضي إلا للقانون".

[25] ينظر بهذا الخصوص، بدر خان إبراهيم، مرجع سابق، ص42،

[26] راجع المواد 32 – 33 و 34  من القانون النظامي رقم 94-012 المتضمن النظام الأساسي للقضاء المعدل بالأمر القانوني رقم 2006-016 الصادر بتاريخ 12 يوليو 2006 والمعدل كذلك بالقانون النظامي رقم  2020-031 الصادر بتاريخ 08 دجنبر 2020.

[27] يمكن الرجوع للمادة 262 وما بعدها من القانون رقم 99-35 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية.

[28] راجع المادة 101 من الأمر القانوني رقم 89-126 الصادر بتاريخ 14 دجنبر 1989 المتضمن قانون الالتزامات والعقود، المعدل.

[29] راجع بهذا الخصوص، بدر خان إبراهيم، مرجع سابق، ص42، الهامش رقم 24.

[30] المادة الثانية من دستور 19991.

[31] المادة الرابعة من نفس الدستور.


إرسال تعليق

0 تعليقات