آخر الأخبار

Advertisement

إشكالية الإثبات المدني باليمين القضائية - ذ/ محمد بوخريسا - مجلة الباحث

 

ذ/ محمد بوخريسا

 باحث بسلك الدكتوراه بجامعة عبد المالك السعدي

- طنجة -

إشكالية الإثبات المدني باليمين القضائية

مقدمة:

تنقسم وسائل الإثبات المدنية إلى أدلة إثبات حاسمة وأدلة إثبات غير حاسمة، ومن بين أدلة الإثبات الحاسمة نجد اليمين القضائية.

ذلك أن التصريحات المدونة في محاضر الضابطة القضائية لا ترقى إلى الشهادة لأنها لم تشفع باليمين، كما أن هذه التصريحات قد تكون من شخص طرف في القضية ومن الصعب تصور أن يكون هذا المصرح قادرا على تخليص تصريحاته من بعدها الذاتي المرتبط بمدى دقة وسلامة حواسه ومتأثرا لا محالة بالعوامل النفسية المحيطة بشخصيته، وهي أمر تحول دون إمكانية القبول بان تكون تصريحاته بمفردها دليل إدانة، والحكم الذي يعتمدها بدون أية قرين أخرى ومع تمسك المتهم بالإنكار في جميع الأطوار حتى أمام الضابطة القضائية يكون حكما باطلا لمخالفته الفصل 331 من قانون المسطرة الجنائية الذي يقضي بأن الشاهد يؤدي قبل الإدلاء بشهادته اليمين المنصوص عليها في الفصل 123 من  ق م ج، ويترتب عن الإخلال بذلك بطلان الحكم أو القرار القضائي.

أما أمام المحكمة فإن اعتراف المتهم بأفعال معينة ونفس الوقت يوجه اتهامات إلى شخص أو أشخاص آخرين بأنهم ساهموا أو شاركوا في هذا الفعل، فهذه التصريحات لا ترقى إلى مرتبة الشهادة على الغير، أولا لأن القوة الثبوتية لتصريحات المشتبه به بمحاضر الضابطة القضائية لا تكون لمضمونها وإنما لصدورها عن أصحابها، وقد اصدرت محكمة النقض عدة قرارات في هذا الشأن، جاء في إحداها "محضر رجال الدرك حجة ما تضمنه من تصريحات يوثق بحقيقة صدورها عن أصحابها لا بفحواها"[1].

ومن خلال ذلك يتبين إن اليمين القضائية لا تخلو منها أية محاكمة قضائية وهي لا تقوم إلا بصدورها أمام مجلس القضاء وحده. وسنتولى فيما يلي توضيح الأسس والمبادئ التي تطبع وسيلة الإثبات هذه.

المحور الأول: تعريف اليمين القضائية وأقسامها

سنقسم هذا المحور إلى فقرتين نخصص الأولى للحديث عن ماهية اليمين القضائية على أن نخصص الثانية لأنواعها.

الفقرة الأولى: ماهية اليمين القضائية

تعتبر اليمين القضائية من أقدم طرق الإثبات حيث نجد أنها تستمد مشروعيتها من الكتاب والسنة، إذ وردت في العديد من الآيات القرآنية كقوله عز وجل: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لأن جاءتهم آية ليومنن بها﴾[2] وقوله تعالى: ﴿فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا﴾[3] وقوله تعالى:﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا﴾[4]. 

أما السنة النبوية فنجدها غزيرة بالأحاديث، التي وردت فيها اليمين، ومنها عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين على المدعى عليه"[5]، وفي حديث آخر أن النبي الله عليه وسلم قال" البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"[6]، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام "من حلف على يمين استحق بها ما لا يستحق فهو فيها تاجر لقي الله وهو عليه غضبان"[7].

ودليل مشروعية اليمين من الإجماع فيتجلى في إجماع الفقهاء على أن اليمين وسيلة من وسائل الإثبات أمام القضاء وأنها مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها[8].

ويمكن تعريف اليمين بأنها إشهاد الله تعالى على صدق ما يقول أو على صدق ما يقوله الخصم الآخر، ولما كانت اليمين عملا دينيا، فالشخص الذي يؤدي اليمين يجب أن يؤديها وفقا للأوضاع المقررة في دينه إذا طلب ذلك، فاليمين تعتبر الدليل الديني الوحيد الذي لم يتم التخلي عنه في القوانين الوضعية[9].

ورغم أن المشرع المغربي لم يعرف اليمين القضائية إلى أنه نظم مختلف الأحكام والمقتضيات الخاصة بها في الفصول من 55 إلى 88 من قانون المسطرة المدنية.

وبصفة عامة يمكن القول أن اليمين القضائية هي الوسيلة التي سنها كل من الفقه الإسلامي، والقانون الوضعي للحالف ليثبت صدقه اتجاه شخص آخر سواء كان مدعيا أو مدعى عليه[10].

الفقرة الثانية : أنواع اليمين

إن أغلب التشريعات الوضعية تميز بين اليمين الحاسمة واليمين المتممة. 

أولا: اليمين الحاسمة

وهي تلك اليمين التي يوجهها أحد الخصمين إلى الآخر ليحسم النزاع، فيترتب على حلفها أو النكول عنها، أن يفصل القاضي في النزاع لمصلحة الحالف أو الناكل ولا يسمح بالعودة للتعرض لإثبات ما تم الحلف عليه بأية وسيلة للإثبات[11].

فاليمين الحاسمة اعتبرها البعض علاجا تقتضيه العدالة للحد من مساوئ نظام تقييد الإثبات بنصوص وقواعد تتعلق بقبولها أو عدم قبولها، وتعتبر اليمين الحاسمة عمل قانوني من جانب واحد، يترتب على هذا العمل آثار في ذمة صاحبه ويترتب أيضا التزامات في ذمة الطرف الآخر، ولا تتقيد المحكمة بالخصم الذي توجه له هذه اليمين فهي حسب اجتهادها واطمئنانها توجهها إلى أحد من الخصمين تراه أجدر بالثقة أن يحلفها وله أدلة ليست كاملة، ولكن المحكمة مقيدة في توجيه هذه اليمين بشرط أن لا تكون الدعوى خالية من الدليل نهائيا، أو أن فيها أدلة منتجة تقيد الحكم ولا تكفي لإصداره.

وبحسب نص القانون فإن هذه اليمين تحسم النزاع، بحيث لو أداه المدعي عليه وقرر عدم صحة الادعاء المقام ضده فإن المدعي يخسر دعواه، أما إذا امتنع المدعى عليه من حلف اليمين الحاسمة فإن المدعي يربح الدعوى، حيث يعتبر ذلك دليل إثبات على صحة ما ادعاه[12].

واليمين الحاسمة هي ملك للخصوم وهي دليل من لا دليل له وليس للمحكمة الحق في توجيه اليمين الحاسمة لأحدهم من تلقاء نفسها، ولكن توجيهها يتم بإذن منها فالمحكمة لها حق ممارسة رقابتها على اليمين لمنع توجيهها إذا كانت متعلقة بواقعة ممنوعة أو مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة كما أن للمحكمة ومن خلال سلطتها في رقابة اليمين الحاسمة فلها أن تعدل صيغة اليمين الموجهة من الخصم لتجعلها واضحة ومنسجمة بصورة دقيقة على الواقعة المطلوب الحلف عليها.

ومن الآثار الناتجة عن توجيه اليمين الحاسمة نجد:

- أن الأخذ باليمين الحاسمة يترتب عليها التنازل عما عداها من الأدلة بالنسبة للواقعة التي ترد عليها

- للخصم الذي وجهت له اليمين أن يردها على خصمه إذا لم يشأ حلفها، ولكن بشرط أن تكون الواقعة موضوع الدعوى مما يشترك فيها الخصمين، فرد اليمين الحاسمة تكون بمثابة توجيه اليمين الحاسمة إلى من وجهها أصلا.

ونظرا لخطورة اليمين الحاسمة والآثار القانونية المترتبة عنها والتي قد تؤدي إلى ضياع الحق فإنها يجب أن توجه من المتقاضي شخصيا إلى خصمه مباشرة وليس إلى نائبه، ويمكن القول أن اليمين الحاسمة التي يوجهها محامي أحد الأطراف لخصمه لا تكون مقبولة من قبل القاضي، إلا إذا كانت مصحوبة بتوكيل خاص لتوجيه تلك اليمين، وذلك ما ينص عليه القانون المنظم لمهنة المحاماة[13]، في حين أن يمنع مطلقا أداء اليمين الحاسمة من طرف محامي الخصم.

ثانيا: اليمين المتممة

هي التي يوجهها القاضي من تلقاء نفسه إلى أي أطراف ا لدعوى بغرض إتمام اقتناعه بقرينة معينة، وهذه اليمين لا أثر لها، لأن القاضي له أن يأخذ بها وله أن يلتفت عنها حتى بعد قيام الخصم بحلف اليمين، ومن المعلوم أن للخصم أن يحلف اليمين المتممة إذا طلبها القاضي وله أن يمتنع عن أدائها حيث لا يتقرر حتما بأدائها أو النكول عنها حسم النزاع إيجابيا أو سلبيا.

ويشترط في توجيه اليمين المتممة ألا يكون في الدعوى دليلا كاملا وألا تكون الدعوى خالية أي دليل.

والملاحظ أن اليمين المتممة تنشط وتتداول في المنازعات المدنية والتجارية وقضايا الأسرة، أما في القضايا الجنائية والقضايا الإدارية فهي لا تعتبر وسيلة إثبات.

أما قاضي الأمور المستعجلة فلا يملك توجيه اليمين المتممة لأنه ممنوع من التعرض أصلا لأصل الحق ومهمته فقط اتخاذ الإجراءات والتدابير المؤقتة.

ويمكن القول أن لليمين المتممة مميزات تتمثل في أن الخصم الذي وجهها إليه القاضي لا يجوز له ردها على الخصم الآخر، كما يجب أن يحلف اليمين المتممة بنفسه بحيث لا يجوز له أن يوكل أحدا غيره في أدائها، لأن القصد من الحلف هو تأكيد الخصم لما يديعه مع تعزيز ذلك التأكيد باليمين[14].

المحور الثاني: حجية اليمين في الإثبات

سنقسم هذا المحور إلى فقرتين، نخصص الأولى للحديث على حجية اليمين الحاسمة، على أن تطرق في الفقرة الثانية للحديث عن حجية اليمين المتممة.

الفقرة الاولى: حجية اليمين الحاسمة في الإثبات

القاعدة أن أثر حلف اليمين الحاسمة أو النكول عنها قاطع بالنسبة للخصوم وللقاضي، فمن حلفها يحكم لمصلحته، ومن نكل عنها يحكم ضده، والقاضي يلتزم بهذا الأثر فلا يملك الفصل في الدعوى بغير ذلك، بل وعليه أولا توجيه اليمين الحاسمة التي طلبها أحد الخصوم، فقد جاء في قرار للمجلس الأعلى سابقا- محكمة النقض حاليا- ذلك " أنه بمقتضى الفصل 404 من ق ل ع فإن اليمين تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات، وإنه طبقا للفصل 85 من قانون المسطرة المدنية فإن أحد الأطراف إذا وجه اليمين إلى خصمه لحسم النزاع تعين على هذا الخصم أداء اليمين في الجلسة بحضور الطرف الآخر أو بعد استدعائه بصفة قانونية والمفهوم من خلال كل ذلك أن حق توجيه اليمين هو وسيلة من وسائل الإثبات أعطاها المشرع للخصم الذي يحوزه الدليل لإثبات دعواه ولا يقر له خصمه بصحة مما يدعيه، وما على القاضي إلا الاستجابة له متى تأكد له أن هذا الطلب قدم وفق الشروط الشكلية المطلوبة ولهذا فإن محكمة الاستئناف عندما رفضت طلب توجيه اليمين الحاسمة من الطالبة إلى المطلوب لنفي الوفاء لمبلغ الدين المطلوب، لمجرد المديونية مبنية على سند الدين ولا يجوز مناقضة ما جاء فيه إلا بمكتوب، لم تبين قرارها على أساس قانوني"[15].

وفي قرار آخر رقم 985 صادر بتاريخ 31-10-20006 اعتبر أن اليمين الحاسمة تحسم النزاع القائم بين الطرفين بصفة نهائية.

ومما جاء فيه أن "المستأنف في مقاله الاستئنافي بإنهاء عقد التسيير الحر المبرم بينه وبين المستأنف عليه والتمس توجيه اليمين الحاسمة للمستأنف عليه على أن المقهى كان موضوع استغلال وتسيير من طرفه منذ 03/8/1 إلى 04/1/91 ومكن محاميه من وكالة خاصة لتوجيه يمين الإنكار للمستأنف عليه في موضوع توصله بالكراء وتصفية الحساب معه هو المصارف والمداخيل والواجبات الكرائية للمقهى موضوع عقد التسيير الحر المؤرخ في 2/2003، وحيث أدى المستأنف عليه اليمين الحاسمة بجلسة 05/11/9 حسب الصيغة المنصوص عليها في الوكالة الخ منحها المستأنف لمحاميه وذلك تم حسم النزاع نهائيا بشأن واجبات الكراء التي أديت اليمين بشأنها، وحيث إن المحكمة في قرارها التمهيدي الصادر بتاريخ 06/3/7 أمرت بإجراء بحث في النازلة بواسطة المستشار المقرر من أجل التأكد من واقعة فسخ عقد التسيير الحر التي تمسك بها المستأنف بعد تقديم المستأنف عليه لمقاله الإضافي غير أن المستأنف لم يحضر لجلسة البحث ولم يدل بها بحيث توصل المستأنف عليه فعليا بالإشعار بالفسخ ووضع مفاتيح المحل رهن إشارة المستأنف عليه وبالتالي فإن واقعة إنهاء العلاقة الكرائية بين الطرفين بقيت مجردة من أي دليل يثبتها[16].

كل هذه القرارات القضائية تبرز إلى حد كبير السلطة الواسعة التي يتوفر عليها القاضي لرد طلب توجيه اليمين الحاسمة، رغم ما تم ذكر من مميزات هذه اليمين في حسم النزاع.

وللإشارة فإن اليمين الحاسمة قد يترتب عنها عقوبات زجرية نص عليها المشرع الجنائي في الفصل 337 في حالة أدائها زورا، ويتحقق ذلك عندما يتم أداء اليمين الحاسمة من طرف الشخص الذي طلبت منه ثم يكتشف بعد ذلك من طلب أدائها أو موجه اليمين الحجة الكتابية الكاملة لإثبات حقه الذي أدى المدين اليمين الحاسمة لنفيه، وعليه يكون لموجهها إقامة دعوى جنحية سواء بشكاية مباشرة أمام المحكمة طالبا معاقبة الحالف لارتكاب جنحة شهادة الزور المنصوص عليها في الفصل 337 من القانون الجنائي والذي جاء فيه "كل شخص وجهت إليه اليمين أوردت عليه في المواد المدنية أدى أداء اليمين كاذبا يعاقب بالحبس من سنة إلى 5 سنوات وغرامة من 120 إلى 2000 درهم ويمكن أن يتقدم إلى النيابة العامة في الموضوع والذي يتولى متابعة الحالف الكاذب وعندها يتدخل موجه اليمين في الدعوى العمومية طرفا مدنيا، مطالبا بتعويض الضرر المادي والأدبي الذي لحق به من جراء ضياع حققه بسبب الحكم المبني على يمين كاذبة.

ومن الإشكالات المطروحة بخصوص الزور في اليمين الحاسمة أن موجهها لا يبقى له الحق في أن يقدم دعوى للمطالبة بإعادة النظر في الحكم الصادر بناء على اليمين الكاذبة والذي ثبت زورها اعتماد إلا الفصل 402 من القانون الجنائي والذي ينص على أن اعتبار أن أداء اليمين الحاسمة زورا يترتب عليه إعادة النظر في الحكم الصادر عن المحكمة:

وذلك بناءا على المستندات اعترف أو صرح بأنها مزورة بعد صدور الحكم، بينما الحكم المبني على يمين حاسمة كاذبة لا يدخل في هذا النطاق ولا يمكن لمن صدر الحكم ضده أن يطلب إبطال الحكم، وكل ما له أن يطالب بتعويض عن القرار الحاصل له بسبب اليمين، وفي نظرنا أن هذا الأمر كان يجب على المشرع أن يتفاداه من خلال إدراج فقرة إضافية في الفصل متعلق بإعادة النظر وأخص بالذكر هنا الفصل 402 من ق م ج.

الفقرة الثانية :حجية اليمين المتممة في الإثبات.

تعتبر اليمين المتممة  إجراء من إجراءات الإثبات وهي حق للقاضي وحده وهو حر في توجيهها إلى أحد الخصوم أو كليهما، وهي حجة غير ملزمة للقاضي وغير ملزم بالحكم بما أدت إليه، إذ يمكنه الحكم بعكسها، ورغم ذلك تظل اليمين المتممة ذات فائدة فهي نظام من أنظمة العدالة يلجأ إليها القاضي حينما يحتاجها لإتمام قناعته الشخصية واستعدادا للفصل في النزاع.

وهذه اليمين تتطلب ضمانات فرضها المشرع إذ لا يمكن للقاضي اللجوء إليها في حالة خلو القضية من حجج وأدلة إثبات أخرى أي وجود أدلة إثبات ناقصة وغير منعدمة بالمرة وهذا ما أكده المجلس الأعلى في العديد من قراراته منها القرار عدد 1726 بتاريخ 23-11-1983 والذي جاء فيه "حقا فإن المحكمة رغم تأكيدها على أن المدعي لم يدلي بما يثبت دعواه، قضت على الطاعن بالأداء مع اليمين المتممة في حين أن هذه اليمين كما تعبر تسميتها لا توجد إلا إذا قدم المدعي دليلا اعتبرته المحكمة غير كامل في الإثبات ولا يمكن أن تكون وحدها أساسا للقضاء بحق وقع إنكاره"[17].

ويجوز للقاضي الرجوع عن اليمين المتممة بعد أن يكون قد وجهها إلى أحد الخصوم أو كلاهما بعد أن تبين له ظهور أدلة جديدة ستغنيه عن نتائج هذه اليمين.

بل يجوز له الرجوع لمجرد أن يكون قد غير رأيه دون حاجة للكشف عن أدلة جديدة فقد يعيد النظر في تقدير الأدلة الموجودة فيراه كاملة فكان يظنها قبل توجيه اليمين ناقصة، أولا يرى فيها دليلا بعد كان يظنها أدلة ناقصة، فيرجع عندئذ في توجيه اليمين المتممة بعد أن يكون قد وجهها[18].

قد تصبح اليمين المتممة دون فائدة أمام المحكمة الاستئنافية التي لا تتقيد بناتج اليمين المتممة أثناء المرحلة الابتدائية ولا تلزمها إذ يمكن أن ترى أن الخصم الآخر هو الذي يجب أن توجه له اليمين المتممة وتوجهها له في المرحلة الاستئنافية ولأول مرة، وقد ترى أن وجود أدلة كافية يغنيها عن اليمين المتممة، كما قد ترى انعدام الأدلة بالمرة مما يجعل تطبيق هذه اليمين دون جدوى.

نخلص في الأخير أن اليمين تثير إشكالا بين رجال القانون على اعتبار مسطرة توجيه اليمين الشرعية فهناك فريقين:

-فريق ذهب إلى أن اليمين يطبق عليها قانون الالتزامات والعقود في الموضوع، والفصول من 85 إلى 88 من ق م م في الشكل، ما دام المقنن قد أوردها ضمن إجراءات التحقيق[19] فاليمين بنوعيها وسيلة من وسائل الإثبات التي يقررها قانون الموضوع، ولذلك فالحكم بها يجب أن يكون قبل البت في جوهر الدعوى[20] كما أن المصلحة تقتضي بأن تعمل المحكمة قبل إصدارها الحكم  على تصفية جميع ما يتعلق بالموضوع عن طريق إصدار حكم تمهيدي[21].

وهذا الرأي يجد له تفسير في العديد من القرارات منها القرار عدد 1032 بتاريخ 15-3-1993.[22]

أما الفريق الثاني فيرى أن الاتجاه الأول يخلط بين اليمين الشرعية واليمين المبنية بالمسطرة المدنية[23] فإذا كانت اليمين الحاسمة وهي من الأيمان المقررة في القانون الوضعي لم تلزم المسطرة المدنية بتوجيهها بحكم تمهيدي، فكيف تخضع اليمين الشرعية لذلك، وبالنسبة ليمين الإنكار ويمين تكملة النصاب، يتعذر إصدار حكم بأي منهما خلال سريان المسطرة والقضية ما تزال في مرحلة تقديم الحجج وأوجه الدفاع ومناقشة كل طرف لما أدلى به الطرف الآخر من أدلة وحجج تعزز موقفه[24].

وبهذا فإن إخضاع أحكام الأيمان الشرعية لإجراءات المسطرة المدنية فيما يتعلق باليمين الحاسمة واليمين المتممة المنظمتين من طرفها هو خرق للقانون[25].

وهذا الاتجاه تكرس أيضا بالعديد من القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى ومنها القرار عدد 2258 الصادر بتاريخ 26-9-1991 والقرار عدد 1542 بتاريخ 24-12-1985[26].

خاتمة:

إن الانسجام والتناغم بين قانون الالتزامات والعقود وقانون المسطرة المدنية فيما يخص وسائل الإثبات يبرره مدة مكوث هذا المذهب الذي تبناه المشرع المغربي لأكثر من قرن من الزمن أي منذ سنة 1913 إذ نجد أن هناك اشتراك بين القانونين في تنظيم الأحكام الموضوعية والإجرائية لوسيلتين هما الكتابة الورقية التقليدية، وشهادة الشهود، أما بالنسبة لتنظيم دور القاضي في الإثبات فنلاحظ أن ق ل ع يقيد القاضي بالأدلة المحددة حصرا في الفصل 404، أما قانون المسطرة المدنية يخول له إمكانية ليكون دوره إيجابيا نسبيا في تعامله مع الخصومة سواء على مستوى تسييرها وعلى محاولته الإلمام بوقائع النزاع والوصول إلى الحقيقة لذلك مكنه من وسيلتين هامتين هما الخبرة والمعاينة، إذن هناك نوع من التكامل بين القانونين إذ نجد أن أحدهما يضبط ويحد من دور القاضي والاكتفاء بحرفية النص، والآخر يلطف هذا الاتجاه بفتح الباب أما القاضي ليقوم بدور إيجابي في تعامله مع الخصومة  غير أن ذلك لا يمنع من وجود بعض مظاهر التنافر بين القانونين وكمثال على ذلك نجد أن قانون المسطرة المدنية ينفرد بتنظيم أحكام اليمين بنوعيها، دون قانون الالتزامات والعقود الذي ينفرد بدوره بتنظيم أحكام كل من الإقرار والإثبات بالدليل الورقي الإلكتروني والقرينة دون قانون المسطرة المدنية، إلى أن هذا التنافر يمكن أن يكون سدا مانعا أمام بروز نواقص تعتلي نظام الإثبات في القانون المغربي خاصة مع ظهور الجيل الجديد من أدلة الإثبات الإلكترونية.

ومن جهة أخرى فإن أحكام الفقه الإسلامي المتعلقة بالإثبات لا تتعارض مع الأحكام العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود.



[1]- قرار عدد 26 س4 بتاريخ 70/11/12 ، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد19، السنة 3 بتاريخ نونبر 1970، ص: 76.

[2]- سورة الأنعام، الآية 109.

[3]-سورة الانشقاق، الآية 7.

[4]-سورة آل عمران الآية 77.

[5]-حديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرهن باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعى واليمين على المدعى عليه حديث رقم 2516 تحقيق الشيخ عبد العزيز ابن الباز دار الفكر 1994، ج 3، ص: 158 وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى.

[6]-الدارقطني في سننه ج 4، ص: 140 رقم الحديث 4465.

[7]-حديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرهن رقم الحديث 2515 دار الفكر 1994 ج 3، ص: 159.

[8]- الكافي في فقه ابن حنبل، ابن قدامة المقدسي، حققه محمد فارس وسعد عبد الحميد السعدي، دار الكتب العلمية بيروت، ج 4، ص: 268.

[9]-  عبد اللطيف بغيل، المختصر في الدعوى  المدنية وإجراءاتها وفق قانون المسطرة المدنية المغربي، مطبعة سبارطيل طنجة 2006، ص: 159.

[10]- سعيد كوكبي، الإثبات وسلطة القاضي في الميدان المدني، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع 2005، ص: 72.

[11]- إدريس العلوي العبدلاوي، وسائل الإثبات في التشريع المدني المغربي ،الطبعة الأولى، مطبعة فضالة المحمدية 1977 ، ص: 175.

[12]- المادة 85 من ق م م تنص على أنه:" إذا وجه أحد الأطراف اليمين إلى خصمه لإثبات إدعاء أوردها هذا الأخير لحسم النزاع نهائيا..."

[13]-  المادة 29 من القانون المنظم لمهنة المحاماة ظهير شريف رقم 1.93.162 صادر بتاريخ 10-09-1993.

[14]-عبد الرزاق السنهوري، االوسيط في شرح القانونٍ المدني الجديد، الطبعة الثالثة ، منشورات الحلبي  القانونية، بيروت لبنان، 2000، ص: 583.

[15]-قرار للمجلس الأعلى عدد 126/90 بتاريخ 17-1-90 في الملف المدني عدد 67/86 غير منشور أشار إليه محمد بادنفي مؤلفه إشكالات اليمين طبعة 2002، ص: 14.

[16]-قرار للمجلس الأعلى عدد 985 رقم الملف 2005/56 بتاريخ 31-10-2006.

[17]- قرار صادر عن المجلس الأعلى عدد 1726 بتاريخ 23-11-1983 في الملف المدني عدد 1726 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 35-36 مارس 1985، ص: 18.

[18]- عبد الرزاق السنهوري، مرجع سابق، ص: 581.

[19]- محمد بادن، إشكالات اليمين بين القانون والفقه الإسلامي على ضوء الاجتهاد القضائي، طبعة 2002، ص: 59.

[20]- سعيد كوكبي، مرجع سابق، ص: 95.

[21]- محمد ابن معجوز، أحكام الشفعة في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي المقارن، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء، الطبعة الثانية سنة 1993، ص: 272.

114- عبد العزيز فتحاوي، طرق الإثبات في ميدان الأحوال الشخصية والميراث، الجزء الأول، مطبعة فضالة المحمدية، 1996، ص: 25.

115- أحمد الخمليشي، وجهة نظر، الجزء الثاني، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى، 1998، ص: 271.

116- لمزيد من الفائدة أنظر قرار المجلس الأعلى عدد 2258 بتاريخ 26-9-1991 غبر منشور أشار إليه محمد بادن، م . س، ص: 62. وأيضا القرار عدد 1542 بتاريخ 24-11-1985 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39 السنة 11-1986 ص: 127.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات