آخر الأخبار

Advertisement

دور التحكيم في تسوية نزاعات الاستهلاك - الأستاذ عماد المرنيسي، العدد 41 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث


 دور التحكيم في تسوية نزاعات الاستهلاك - الأستاذ عماد المرنيسي، العدد 41 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث


لتحميل العدد الذي يشمل المقال بصيغة pdf الرابط أذناه:






الأستاذ عماد المرنيسي

       باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق جامعة سيدي

 محمد بن عبد الله - فاس

    دور التحكيم في تسوية نزاعات الاستهلاك

Le rôle de l'arbitrage dans le règlement des litiges de consommation

مقدمة:

دفعت مظاهر أزمة الاختناق القضائي وضرورات السرعة التي تستلزمها النزاعات التجارية، وكذلك الرغبة في التخفيف عن جهاز القضاء إلى التفكير بجدية في تطوير منظومة الوسائل البديلة لفض النزاعات وتوسيع نطاق تطبيقها.

وعندما نتحدث عن نزاعات الاستهلاك فإن الحاجة إلى هذه الوسائل تزداد أهميتها وضرورتها، ذلك أن طبيعة المساطر القضائية وخصوصيتها من حيث التعقيد وطول المدة وتكلفتها قد لا تتلاءم تماما مع طبيعة النزاعات الاستهلاكية وقيمتها التي تكون في الغالب بسيطة، وهو ما يبرز ضرورة وحاجة البحث في الدور الذي يمكن أن تلعبه الوسائل البديلة لتسوية النزاعات في حل الخلافات ذات الطابع الاستهلاكي، حيث نجد نفسنا أمام وسيلتين رئيسيتين: هما آلية التحكيم والوساطة الاتفاقية.

وبما أن موضوعنا يتعلق بنظام التحكيم، فإننا سنحاول تحليل وتأطير الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا النظام في تسوية نزاعات الاستهلاك، وذلك من خلال محاولة تناول الإشكالية الأساسية المتعلقة  بتوزع الإطار القانوني لنظام التحكيم في نزاعات المستهلكين بين منظومتين تتمثلان أساسا في  القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك من جهة، وفي القانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الإتفاقية من جهة أخرى، فكيف تتحدد إذن حدود التطبيق بين هذين القانونين بالنسبة لهذه المساطر وما هي أهم الآثار المترتبة على ذلك ؟

المطلب الأول: الإطار المفاهيمي والقانوني للتحكيم في نزاعات الاستهلاك

أولا: الإطار المفاهيمي للتحكيم في نزاعات الاستهلاك

لقد عرف القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك هذا الأخير من خلال المادة الثانية بكونه " كل شخص طبيعي أومعنوي يقتني أو يستعمل لتلبة حاجياته غير المهنية منتوجات وسلعا أوخدمات معدة لإستعماله الشخصي أوالعائلي". مما يلاحظ معه تبني المشرع المغربي لطرح الإتجاه الموسع لمفهوم المستهلك.

كما عرف مفهوم المهني أوالمورد في مادته العاشرة بأنه كل شخص طبيعي أومعنوي يتصرف في إطار مهني أوتجاري.[1] 

أما عقد الإستهلاك فيعرف بأنه عقد بمقتضاه يحصل المشتري من المهني على سلعة أوخدمة لأجل إستعمال غير مهني[2]، لذلك فإنه يمكن تعريف النزاع الإستهلاكي بأنه :  كل نزاع ينشأ بمناسبة عقد إستهلاكي بين مستهلك ومهني. وهذا النزاع شأنه شأن العقد الإستهلاكي الذي انبثق عنه يتسم أيضا بعدم تكافؤ المراكز القانونية بين طرفيه، ولهذه الغاية يتدخل القانون 31.08 تبعا لذلك من أجل إعادة التوازن العقدي من جهة، ولإعادة التكافؤ في المراكز القانونية بين المستهلك والمهني عند عرض النزاع على القضاء من جهة أخرى، حيث يقرر عدة مقتضيات إجرائية وموضوعية كإستثناء على القواعد العامة.

أما الشق المسطري للموضوع والمتعلق بنظام التحكيم فيتحدد تعريفه طبقا للقانون رقم 05-08  بأنه يقصد به حل النزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق التحكيم. ([3])

ثانيا: الإطار القانوني للتحكيم في نزاعات الاستهلاك

يتوزع التنظيم القانوني للتحكيم في نزاعات الاستهلاك بين إطارين رئيسيين، حيث يمثل القانون رقم 05-08 الإطار القانوني العام لنظام التحكيم الذي يطبق على جميع النزاعات التي يجوز أن يعمل فيها هذا النظام، لكن موضوع التحكيم الذي ينذرج ضمن مادة الإستهلاك يفرض مجموعة من الخصوصيات بموجب القواعد القانونية التي تعطي الضمانات الحمائية للمستهلك كطرف ضعيف في العلاقة التعاقدية سواء تلك المحددة في القانون 31.08 أو في القواعد العامة أو في بعض القواعد الجنائية الحمائية التي جاءت لصالح المستهلك.

كما أن خصوصية التحكيم المتمثلة في إمكانية اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع وكذلك إجراءاته من قبل أطراف النزاع تجعل من مجال تطبيق قانون حماية المستهلك ضيقا ومحدودا، إلا أن ذلك لا يعني استبعاد هذا الأخير بالكلية من تنظيم التحكيم في نزاعات الإستهلاك سواء على المستوى الإجرائي أو على المستوى الموضوعي الذي يتعلق بجوهر النزاع الإستهلاكي، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي ترتسم بها حدود تطبيق قواعد قانون حماية المستهلك في عملية التحكيم؟  وأيضا عن كيفية تطبيق إجراءات القانون رقم 05-08 على النزاع الإستهلاكي؟

1 حدود تطبيق قانون حماية المستهلك والقانون رقم 05-08 في عملية التحكيم

يطبق قانون حماية المستهلك من حيث الأصل على نزاعات الإستهلاك التي تنشأ بين طرف مهني وطرف مستهلك حيث يأصل هذا القانون للأحكام العامة لعقود الاستهلاك التي تعكس فلسفة المشرع في حماية المستهلك كطرف ضعيف في هذه العقود وفي هذه النزاعات.

أما بالنسبة للقانون رقم 05-08 فهو قانون مسطري يضمن الحد الأدنى من الضمانات لكلا طرفي النزاع موضوع التحكيم (التي يمكن توسيعها اتفاقا)، كما يسعى إلى ضمان التوازن العقدي بين طرفي التحكيم وكذلك ضمان إحترام قواعد العدالة والإنصاف منخلال قواعده الإجرائية لذلك فلا يمكن الإتفاق على مخالفة القانون 05-08.

ويعتبر القانون رقم 05-08 خاصا بالنسبة لقانون حماية المستهلك،ذلك أن العام اصطلاحا هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع من يصدق عليه معناه دفعة واحدة. وحكم الخاص أنه بين في نفسه فلا إجمال فيه ولا إشكال ولهذا فهو يدل على معناه الموضوع له دلالة قطعية ويثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن ([4]).

وبما أن قانون حماية المستهلك يتوجه في خطابه من حيث المبدأ إلى القضاء أثناء بته في نزاعات الإستهلاك، باعتبار القضاء هو الطريق الأصلي في حل النزاعات وللمبدأ الذي ينص على عدم الإجتهاد عند وجود النص. فإنه بذلك يعتبر نصا عاما يخصصه بالاستثناء القانون رقم 05-08 باعتباره القانون المسطري المختص في إجراءات التحكيم والوساطة من جهة ولكون الفصل 327-18 من هذا القانون يضع استثناء واضحا على قواعد قانون حماية المستهلك من جهة أخرى، حيث ينص هذا الفصل في فقرته الأولى على أن "تطبق هيئة التحكيم على موضوع النزاع القواعد القانونية التي يتفق عليها الطرفان" أو تطبيق القانون الأكثر إتصالا بالنزاع في حالة عدم الإتفاق. وكذلك الأمر بالنسبة للجانب الإجرائي حيث يختار أطراف النزاع نظاما معينا للتحكيم أو تقوم الهيئة باختياره عند انعدام الاتفاق. كما أنه بإمكان الأطراف اختيار المسطرة الإجرائية لأحد المؤسسات التحكيمية بالاتفاق على عرض النزاع عليها طبقا للفصل 319 من القانون رقم 05-08.

ولهذا الإستثناء الصريح الذي يضعه القانون رقم 05-08 المنظم للتحكيم والوساطة الاتفاقية ([5]) على القانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك ([6]) فإن قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية يعتبر خاصا بالنسبة لقانون حماية المستهلك ([7]). وهو ما يمكن الأطراف من الاتفاق على استبعاد قانون حماية المستهلك.

ويصبح القانون رقم 31.08 هو القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع الاستهلاكي فقط حينما يكون هو القانون المختار من طرفي النزاع. كما قد يصبح كذلك عند إتفاق طرفي النزاع على اختيار القانون المغربي دون التنصيص صراحة على قانون حماية المستهلك في اتفاق التحكيم، وذلك تطبيقا للقاعدة التي تنص على اختيار المحكم للقانون الأقرب للنزاع المنصوص عليها في الفصل 327-18 من القانون رقم 08.05، حيث يعتبر القانون رقم  08-31 الأقرب لهذا النزاع حينما يتعلق موضوع النزاع بعقد استهلاكي.

أما إذا عين طرفا النزاع قانونا آخر غير قانون حماية المستهلك (كالقانون التجاري المغربي أو اختيار قانون أجنبي كالقانون الفرنسي أوالسويسري) فإنه يصبح هو القانون الواجب التطبيق بالنسبة للمحكم حيث يكون ملزما له تحت طائلة البطلان وذلك بموجب الفقرة الثالثة من الفصل 327-36 من القانون رقم 05-08 في بندها السابع وهو ما يعني استبعاد القانون رقم 08-31 وبالتالي إقصاء الضمانات الحمائية المضمنة فيه.

ومع ذلك، فإن نظام التحكيم الذي يندرج ضمن مادة الاستهلاك يفرض مجموعة من الخصوصيات بموجب القواعد القانونية التي تعطي ضمانات حمائية للمستهلك كطرف ضعيف في العلاقة التعاقدية سواء تلك المحددة في القانون 31.08 أو في القواعد العامة أو في بعض القوانين الجنائية التي جاءت لصالح المستهلك.

كما أن خصوصية التحكيم المتمثلة في إمكانية اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع وكذلك إجراءاته من قبل أطراف النزاع تجعل من مجال تطبيق قانون حماية المستهلك ضيقا ومحدودا، إلا أن ذلك لا يعني استبعاد هذا الأخير بالكلية من تنظيم التحكيم في نزاعات الاستهلاك على المستوى الموضوعي الذي يتعلق بجوهر نزاع الاستهلاك. وخاصة عندما يتعلق الأمر بقواعد النظام العام أو بقواعد موضوعية ذات طابع حمائي للمستهلك مضمونة بنصوص زجرية.

2 تطبيق النظام العام في نزاعات الاستهلاك موضوع التحكيم وحدود هذا التطبيق:

على مستوى التحكيم الداخلي فإن الفصل 327-36 من القانون رقم 05-08 قد جعل الأحكام التحكيمية التي تصدر مخالفة لأي قاعدة من قواعد النظام العام بما فيها الحمائية منها معرضة للبطلان، وبالتالي فإن قواعد حماية المستهلك المرتبطة بالنظام العام تعتبر مخالفتها من أسباب الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي وهو ما يعتبر استثناء لقاعدة إمكانية استبعاد مقتضيات القانون رقم 08-31. وبالتالي فإن قواعد حماية المستهلك المرتبطة بالنظام العام ومتى كانت أحكام القانون المختار من قبل طرفي النزاع مخالفة لها جاز الطعن فيها بالبطلان.

كذلك الأمر بالنسبة للمادة الدولية طبقا للفصل 327-51 من القانون رقم 08.05([8]) والذي أحال على الفصل 327-49 من نفس القانون. إذ يكرسان استثناء عدم إمكانية استبعاد قواعد حماية المستهلك المرتبطة بأحكام النظام العام الحمائي. لكن هذا الإستثناء على مستوى المادة الدولية كما هو الحال بالنسبة للتحكيم في عقود الاستهلاك الدولية يرد عليه قيد، وذلك في الحالة التي يتعارض فيها النظام العام الدولي مع النظام العام الداخلي.

فكما يقول بعض الكتاب ([9]) : "فالحكم التحكيمي الدولي يبطل إذا خالف النظام العام الدولي، ولا يبطل حتما إذا خالف النظام العام الداخلي." إذ أن الفقه والإجتهاد القضائي يقران بإمكانية إستبعاد النظام العام الداخلي من قبل المحكم عن طريق تقديره في ضوء معايير تعتبر وفقا لهذا الطرح سياسية وذات أولوية في التطبيق، ذلك أنه عندما يوجد تناقض بين "النظام العام العبر دولي والنظام العام الداخلي وإثارة مسألة أولوية التطبيق بينهما فإن الرأي قد استقر على وجوب تطبيق القواعد الأولى في المادة الدولية ([10]). وهو ما ينتج إمكانية لتجاوز المحكم لتطبيق بعض مقتضيات النظام العام الداخلي في هذه الحالة فيما يخص المادة الدولية.

وهكذا يظهر أن التحكيم في نزاعات الاستهلاك يطرح إمكانية حرمان المستهلك من الضمانات الأساسية التي تعتبر من مقتضيات النظام العام وتعيد التوازن العقدي وتوازن المراكز القانونية بين المستهلك والمهني طرفي النزاع موضوع التحكيم، وهنا يظهر أحد الأوجه الرئيسية لقصور نظام التحكيم في هذا النوع من النزاعات.

وهكذا تكون حدود تطبيق القانون رقم 05-08 والقانون 31.08 بخصوص نظام التحكيم في نزاعات الاستهلاك قد اتضحت، وذلك بشكل يوضح أساسا الحد الأدنى من الضمانات الحمائية التي يضمنها قانون حماية المستهلك والمتمثل بشكل أساسي في قواعد النظام العام الحمائية والمشاكل التي تواجهها،  والضمانات العامة المضمنة في قواعد وإجراءات قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية، فكيف تتحدد إذن الضمانات الإجرائية لأطراف نزاع الاستهلاك في عملية التحكيم ؟

 

المطلب الثاني: انعكاس قواعد القانون رقم 05-08 على المادة الاستهلاكية

يعتبر القانون رقم 05-08 هو القانون الإجرائي المختص في تنظيم التحكيم في جميع النزاعات التي لم يحظر فيها بشكل صريح هذا النظام، لكن ذلك التطبيق ينضبط فيما يتعلق بالمادة اللإستهلاكية ببعض الخصوصيات المرتبطة بضرورات حماية المستهلك كطرف ضعيف.

وهكذا فإن هذا القانون يفرض بخصوص هذه المادة العديد من الاستلزامات على مستوى الاجراءات وعلى مستوى اتفاق التحكيم.

أولا: الضمانات الإجرائية لأطراف نزاع الاستهلاك في عملية التحكيم

لا يجد أطراف النزاع الاستهلاكي الحماية خلال عملية التحكيم فقط في مقتضيات النظام العام المنصوص عليها في قانون حماية المستهلك، وإنما يستفيد هؤلاء الأطراف أيضا من الضمانات الإجرائية العامة التي تحمي طرفي نزاع التحكيم والتي تشترك فيها منازعات الاستهلاك مع غيرها من المنازعات، والمضمنة في القانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية؛ سواء على مستوى تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءاته أو على مستوى اتفاق التحكيم ..

إذ تشرط مثلا في المحكم أو هيئة التحكيم التي يجب أن تكون وثرية شروط الفصل 323 من القانون سابق الذكر، والتي من بين أهمها: الأهلية وانعدام السوابق القضائية للمحكم (طبقا للفصل 320 من نفس القانون)، وألا تكون له أو لزوجته أو لأصوله أو لفروعه مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة في النزاع، وألا تكون له علاقة قرابة أو مديونية مع أحد الأطراف ([11]) ... فالقانون رقم 05-08 قد حدد عدة شروط يجب توفرها في شخص المحكم والتي من شأنها أن تضمن أهلية هيئة التحكيم لممارسة هذه المهمة وأن تضمن حيادها ونزاهتها، مما يضمن للمستهلك الحد الأدنى من الحماية من استغلال الطرف الآخر لوضعه كمهني لاختيار محكم قد ينحاز لصالحه أو تجمعه به منفعة شخصية أو مالية.

وبالنسبة لإجراءات التحكيم فقد حدد أيضا القانون رقم 05-08 مجموعة من الضمانات على غرار ما نص عليه الفصل 327-14 من هذا القانون، عندما فصل مسألة استدعاء الأطراف وتبليغهم، وعلى غرار كون مكان التحكيم والمناقشات لا تفرض فرضا على الطرفين بموجب الفصل 327-13، فلا يحق لهيئة التحكيم بناء على ذلك أن تفرض مثلا مركز مؤسسة التحكيم، كمكان للتحكيم وللمناقشات على الطرفين، واختيارها له يبقى على سبيل الاقتراح الذي يستوجب رضا الطرفين،  مما يسمح إذن للمستهلك باختيار هذا المكان، ولو من الناحية النظرية.

كما أن القانون 05-08 في فصله 327-13 نص على ضمانة مهمة في إجراءات التحكيم شبيهة بتلك المقررة في قانون حماية المستهلك، عندما جعل لغة التحكيم هي اللغة العربية لا اللغة الأجنبية، إلا في حالة اتفاق الطرفين على عكس ذلك.[12]

وإلى جانب هذه الضمانات يستفيد أطراف النزاع بمن فيهم المستهلك من خصائص آلية التحكيم التي من بينها خاصية المرونة التي تجعل مساطر هذه الآلية تتجاوز إشكالية عدم تلاءم تعقيد وطول المساطر القضائية مع خصوصيات نزاعات الاستهلاك .. وكذلك يضمن التحكيم سرعة حل النزاع وقصر مدة مسطرته، ذلك أن مدة حلها غالبا ما تكون قصيرة لكونها اتفاقية، وحتى في الحالة التي لا يتفق فيها الأطراف على مدة التحكيم فإنها لا تتجاوز 6 أشهر من اليوم الذي قبلت فيه الهيئة التحكيمية مهمة التحكيم طبقا  للفصل 20-327 .. وبذلك  يتجاوز التحكيم في نزاعات الاستهلاك إشكالية طول إجراءات تسوية النزاع الاستهلاكي قضائيا والذي لا يتلاءم مع طبيعة هذه النزاعات التي تكون في غالبها بسيطة كما أسلفنا، ذلك أن تعقيد وطول المساطر عادة ما يثني المستهلك عن التظلم بخصوص ضرره في العلاقة التعاقدية الاستهلاكية، ومع ذلك فإن التحكيم هو الآخر لا يساعد في تجاوز إشكالية عدم تلاءم تكلفة المساطر القضائية مع قيمة أغلب نزاعات الاستهلاك، إذ أن تكاليف التحكيم في الغالب ما تتجاوز تكلفة الطرق القضائية نفسها.

وتقدم كل هذه الإجراءات والضمانات والخصائص التي ذكرت على سبيل المثال لا الحصر التحكيم كآلية لفض نزاعات الاستهلاك توفر الحد الأدنى من الحماية لأطراف النزاع من الناحية النظرية، إلا أن ذلك طبعا لا ينفي وجود مجموعة من الإشكاليات المهمة التي تواجه نظام التحكيم في نزاعات المستهلكين.

ثانيا: جواز شرط التحكيم في نزاعات الاستهلاك

إن غالبية الفقه ترى أن شرط التحكيم يعتبر شرطا تعسفيا ويجب إبطاله في عقود الإستهلاك حيث يستندون إلى الطبيعة المختلطة لهذا النوع من العقود التي يكون فيها المعني تاجرا والمستهلك غير تاجر، فيبطل شرط التحكيم الذي يرد فيه وبهذايظل الإختصاص فيه قصرا على القضاء ([13])؛ وبالتالي فإن هذه الحجة تنصرف إلى الطبيعة المختلطة لعقود المستهلكين ([14]).

هذا الإتجاه يوافقه المشرع الفرنسي الذي اعتبر شرط التحكيم لا يصلح إلا في العقود التجارية، حسب ما تنص على ذلك الفقرة الأخيرة من المادة 631 من القانون التجاري، إذ أنه على هذا الأساس فإن هذا الشرط يعتبر باطلا في المنازعات التي يكون موضوعها عقود الاستهلاك ([15]).

وسبب هذا البطلان يتمثل في الخطر الذي يمكن أن يترتب عن تطبيق شرط التحكيم الوارد في العقود التي يكون أحد الأطراف فيها غير تاجر لاسيما بالنسبة للمستهلك الذي لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يقدر أهمية وعواقب مثل هذه الشروط، خاصة في الوقت الذي يوقع فيه على العقد ([16]).

كذلك فإن المادة 2061 من القانون المدني الفرنسي لا تعترف بإدراج شرط التحكيم سوى في العقود التجارية المحضة، أما في  العقود المختلطة وخاصة المدنية منها فتحتاج إلى إجازة صريحة من طرف القانون، وهو ما لا يوجد في شأنه نص صريح بخصوص نزاعات الإستهلاك، وهو ما يؤسس للحظر القانوني لشرط التحكيم في نزاعات الإستهلاك في القانون الفرنسي، وعلى الرغم من ذلك فإنه يوجد إختلاف وتباين واضح بين الفقه الفرنسي حول نطاق تطبيق هذه المادة بين المجال الداخلي والدولي ([17])، ذلك أن بعض الفقه يعتبر أن نطاق حظر شرط التحكيم في نزاعات الإستهلاك يقتصر فقط على المادة الداخلية دون الدولية.

في حين نجد بعض التشريعات الأخرى على غرار التشريع المغربي لا تنص على أي استثناء يمنع شرط التحكيم في هذا النوع من النزاعات، لكن المشرع المغربي مثلا يتدخل فقط لمنع شرط التحكيم في الحالة التي يحد فيها هذا الشرط من حق المستهلك في اللجوء للقضاء، إذ يعتبر هنا شرط التحكيم تعسفيا بمفهوم المادة 18 من القانون رقم 08-31.

خاتمة:

بناء على كل ما سبق يمكننا القول إذن أن علاقة المستهلك كطرف ضعيف في النزاع بنظام التحكيم كوسيلة لتسوية النزاعات هي ليست علاقة تناقض كامل، لكنها في نفس الوقت ليست علاقة تلائم وانسجام تام.

أي أنه لا يمكن القول أن المستهلك في خضم عملية التحكيم سيكون محروما ومجردا من جميع الضمانات الحمائية، إذ سيستفيد هذا الأخير على المستوى الاجرائي من الحماية التي تقدمها الأحكام والضمانات العامة المضمنة في قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية، وسيستفيد أيضا على المستوى الموضوعي من قواعد النظام العام المضمنة في قانون حماية المستهلك، الذي وسع من مجال قواعده التي تعتبر من قبيل هذا النظام العام.

لكن وفي المقابل فإن ذلك لا ينفي حقيقتين ثابتتين هما : كون قواعد التحكيم قد نشأت في بيئة تجارية لا تتطابق تماما مع طبيعة نزاعات الاستهلاك، وأن هذا النظام  يجعل القانون الواجب التطبيق هو قانون ارادة الأطراف، مما قد يقصي نسبيا القانون رقم 08-31 من لعب دوره وتنزيل فلسفته في حماية الطرف المستهلك، ذلك أن الكثير من قواعد هذا الأخير ليست من أحكام النظام العام التي لا يجوز للمحكم استبعادها.

أما بالنسبة لشرط التحكيم في نزاعات الاستهلاك على وجه الخصوص  فمن الواضح أن الطبيعة المختلطة لعقود الاستهلاك، تفرض عدم ملائمته لهذه النزاعات، خصوصا مع صعوبة تقدير المستهلك لعواقب هذا الشرط عند إبرام العقد، مما يتعين معه حظر هذا الشرط في المادة الإستهلاكية بشكل صريح.

لائحة المراجع:

هند الحدوتي : عقود الإستهلاك بين النظرية والتطبيق , بحث لنيل شهادة الماستر في قوانين التجارة والأعمال، تحت إشراف د.بناصر الحاجي،  كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية جامعة محمد الأول وجدة سنة 2009/2010 .

المهدي محمد سعيد : "قواعد تفسير النصوص و تطبيقاتها في الإجتهاد القضائي الأردني – دراسة أصولية مقارنة أطروحة لنيل الدكتوراه تحت إشراف د. عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية، يناير 2005 .

عبد الحميد الأحدب "مفهوم النظام العام في التحكيم؛ المجلة المغربية للتحكيم التجاري العدد (2) سنة 2003 صادرة عن المركز المغربي للتوفيق والتحكم الرباط.

حياة متولي بدوي : "سمو النظام العام العبر دولي على الأنظمة العامة الداخلية، مقال منشور على (الموقع الإلكتروني المحاماة نت) بتاريخ 30 أبريل 2012. اطلع عليه بتاريخ 10/01/2022 س18، من موقع:  http://www.mohamah.net/law/.

الأستاذ محمد المختار الراشدي:"إجراءات مسطرة التحكيم"، مجلة المحاكم المغربية، العدد 117 دار النشر مجلة هيئة المحامين بالدار البيضاء سنة 2008.

أمال أحمد الفيزازي: "دور الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم"،الناشر منشأة المعارف الإسكندرية، طبعة سنة 1999.

القانون 31.08 القاضي بتحديد تدابيرلحماية المستهلك الصادر بتنفيذه الظهير الملكي رقم 1.11.30 الصادر في 14 من ربيع الأول 1432 / 18 فبراير 2011 , المنشور في الجريدة الرسمية عدد 5932 – 7 أبريل 2011 .ص 1079 .



[1] - القانون 31.08 القاضي بتحديد تدابيرلحماية المستهلك الصادر بتنفيذه الظهير الملكي رقم 1.11.30 الصادر في 14 من ربيع الأول 1432 / 18 فبراير 2011 , المنشور في الجريدة الرسمية عدد 5932 – 7 أبريل 2011 .ص 1079 .

[2] - هند الحدوتي : عقود الإستهلاك بين النظرية والتطبيق , بحث لنيل شهادة الماستر في قوانين التجارة والأعمال ، تحت إشراف د.بناصر الحاجي،  كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية جامعة محمد الأول وجدة سنة 2009/2010 ص 9.

[3]- الفصل 306 من القانون 05-08 الصادر بتفنيذه الظهير رقم 1.07.169 بتاريخ 30 نونبر 2007 (الناسخ للمقتضيات التي كان ينص عليها ظهير 28 شتنبر 1974)، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007، ص 8394.

[4]-المهدي محمد سعيد : "قواعد تفسير النصوص و تطبيقاتها في الإجتهاد القضائي الأردني – دراسة أصولية مقارنة أطروحة لنيل الدكتوراه تحت إشراف د. عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية، يناير 2005 مكتبة الجامعة الأردنية ص : 244 و ص270.

[5]-القانون 05-08 الصادر بتفنيذه الظهير رقم 1.07.169 بتاريخ 30 نونبر 2007 (الناسخ للمقتضيات التي كان ينص عليها ظهير 28 شتنبر 1974)، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007، ص 8394.

[6]-القانون رقم 08-31 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك الصادر بتنفيذه الظهير رقم 1.11.03 الصادر بتاريخ 18 فبراير 2011 المنشور في الجريدة الرسمية عدد 5932 بتاريخ 7 أبريل 2011.

[7]-وذلك لأن القاعدة الأصولية المنطقية تفرض أن الإستثناء يخصص النص العام.

[8]- ينص الفصل 327-51 من قانون 08.05 على أنه يكون الحكم التحكيمي الصادر بالمملكة في مادة التحكيم الدولي قابلا للطعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في الفصل 327-49 أعلاه : "القانون رقم 88.05 الصادر بتنفيذه الظهير رقم 1.07.169 بتاريخ 30 نونبر 2007 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 6 دجنبر 2007 ص382 وما بعدها،

- وقد نص البند 5 من الفصل 327-49 من نفس القانون : على حالة: - "إذا كان الاعتراف أو التنفيذ مخالفا للنظام العام الدولي أو الوطني."

[9]-عبد الحميد الأحدب "مفهوم النظام العام في التحكيم؛ المجلة المغربية للتحكيم التجاري العدد (2) سنة 2003 صادرة عن المركز المغربي للتوفيق والتحكم الرباط، ص44.

[10]-حياة متولي بدوي : "سمو النظام العام العبر دولي على الأنظمة العامة الداخلية، مقال منشور على (الموقع الإلكتروني المحاماة نت) بتاريخ 30 أبريل 2012. اطلع عليه بتاريخ 10/01/2022 س18، من موقع:  http://www.mohamah.net/law/

[11]-ينص الفصل 323 من القانون رقم 05-08 على أنه : "يمكن تجريح المحكم إذا :

1-صدر في حقه حكم نهائي بالإدانة من أجل ارتكاب أحد الأفعال المبينة في الفصل 320 أعلاه؛

2-كانت له أو لزوجته أو لأصوله أو لفروعه مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة في النزاع.

3-كانت له قرابة أو مصاهرة تجمع بينه أو زوجه وبين أحد الأطراف إلى درجة ابناء العمومية الأشقاء.

4-كانت هناك دعوى جارية أو دعوى منتهية في أقل من سنتين بين أحد الأطراف والمحكم أو زوجه أو أحد الأصول أو الفروع.

5-كان المحكم دائنا أو مدنيا لأحد الأطراف.

6-سبق أن خاصم أو مثل غيره أو حضرا شاهد في النزاع.

7-تصرف بوصفه الممثل الشرعي لأحد الأطراف.

8-كانت توجد علاقة تبعية بينه أو زوجه أو فروعه وبين أحد الأطراف أو زوجه أو أصوله أو فروعه.

9-كانت صداقة أو عداوة بادية بينه وبين أحد الأطراف.

[12] ويرى البعض أن تحديد لغة التحكيم في اتفاق التحكيم لا يحد من صلاحية المحكمين في الاستماع إلى الاطراف بلغتهم الأصلية مادام شرط لغة التحكيم لم يكن من الدقة بحيث يمنع الاستماع إلى الأطراف بأي لغة غير اللغة المتفق عليها:

- الأستاذ محمد المختار الراشدي:"إجراءات مسطرة التحكيم"، مجلة المحاكم المغربية، العدد 117 دار النشر مجلة هيئة المحامين بالدار البيضاء سنة 2008 ص 86.

- غير أن هذا الرأي لم يكن موفقا لاعتماده على حجج فقهية تنصرف إلى جواز الاستماع إلى الاطراف بغير اللغة المتفق عليها وليس إلى جواز الاستماع إلى الأطراف بغير اللغة المحددة قانونا كأصل لإجراء المسطرة.

[13]- أمال أحمد الفيزازي: "دور الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم"،الناشر منشأة المعارف الإسكندرية، طبعة سنة 1993. ص185

[14]- طرح البحور على حسن :"عقود المستهلكين الدولية بين قضاء التحكيم والقضاء الوطني"، الناشر دار الفكر الجامعي الطبعة الأولى سنة 2007. ص211.

[15]-CHEY(R ) : « L’Arbitrage et le contrat de consommation, le point sur L’Etat du droit », thèse d’obtention du garde de master, faculté de droit et science politique, mention droit Européen et international des contrats,2005-2006.P 40 et 50.

أناس منير:"التحكيم في عقود الاستهلاك الدولية"، مجلة القانون المغربي عدد 23،2014 مطبعة الرباط دار السلام،الرباط، ص:79.

[16]-مهدي منير المرجع السابق ص 290

[17]-جاء في قرار الغرفة التجارية محكمة النقض الفرنسية والذي يقتضي ببطلان شرط التحكيم في العقود المختلطة القرار صدر بتاريخ 21أكتوبر 1971 (688و1972:Dalloz)

نقلا عن: - مهدي منير: الاحكام القانونية لحماية المستهلك أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص تحت إشراف د.محمد أخياط جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية والاقتصادية والإجتماعية جامعة محمد الأول (وجدة) سنة 2005، ص289و290.


إرسال تعليق

0 تعليقات