آخر الأخبار

Advertisement

التمييز الإيجابي في قانون الإستثمار - الدكتورة سنية النوالي- العدد 42 من مجلة الباحث - منشورات موقع الباحث القانوني


 التمييز الإيجابي في قانون الإستثمار - الدكتورة سنية النوالي- العدد 42 من مجلة الباحث - منشورات موقع الباحث القانوني


لتحميل العدد بصيغته الرقمية pdf اليكم الرابط أذناه:







الدكتورة سنية النوالي

      دكتورا في القانون الخاص - بكلية العلوم القانونية

  و الاجتماعية بتونس

   التمييز الإيجابي في قانون الإستثمار

Discrimination positive dans la loi sur l'investissement

 مقدمة:

 تعتبر المساواة قيمة إنسانية و مبدءا دستوريا كرسته المواثيق الدولية نظرا لما له من أهمية، إلا أنه لا يمكن التسليم بإطلاق هذا المبدأ نظرا لوجود التمييز في مجالات عدة وذلك من خلال معاملة الأشخاص بقيم دونية تخفض من قيمتهم استنادا إلى انتماءاتهم أو جنسيتهم، فالتمييز هو تمييز الصفات والاختلافات بين الأشخاص و الأشياء وجعل الخيارات بين الناس استنادا إلى تلك الصفات الشخصية وبذلك يتعارض التمييز في أساسه مع مفهوم المساواة وهو ما يستشف أيضا من خلال قراءة المادة الأولى من الاتفاقية الخاصة بالقضاء على جميع صور التمييز العنصري[1] حيث تبنت مفهوما سلبيا للتمييز بما هو خرق صارخ لمبدأ المساواة باعتباره يقوم على إعلاء فئة و اضطهاد أخرى لذلك يكون مهما العمل على مجابهته والبحث عن حلول في اتجاه الحد منه و التعويض لما ترتب عن ممارسته من أضرار.

فلئن كان التمييز يتعارض في أساسه مع مبدأ المساواة إلا أنه يلتقي مع مبدأ الإنصاف باعتباره قد يكون قنطرة وآلية تعويضية بامتياز وهو ما كرسه المشرع التونسي في إطار قانون الاستثمار[2] وما سأبينه في جزأين رئيسيين لكن قبل ذلك يجب تحديد بعض المفاهيم الجوهرية ووضع الموضوع في إطاره التاريخي المناسب.

يعد التمييز من حيث الأساس أمرا سلبيا وهو ما يقتضي مجابهته بالمواقف والحلول التشريعية المناسبة.

فالتصدي للتمييز يكون بطريقتين أما الأولى فهي تتمثل في اتخاذ موقف ردعي وثوري فردي أو جماعي، وتتمثل الثانية في التدخل التشريعي تكريسا لآليات تعويضية أو إقرار حماية قانونية ضد التمييز بمختلف أشكاله.

وسيكون لي حديث عن هاتين الطريقتين، فعن المواقف أستحضر قصة واقعية وإن كان موضوعها التصدي للتمييز العرقي فإن لها من الأهمية التاريخية والواقعية، فرغم بساطة الموقف فإنه كان سببا في التصدي للتمييز العرقي وانتشال التمييز بباقي أشكاله من جذوره.

ففي فترة الخمسينات كان القانون الأمريكي يلزم السود بالتخلي عن مقاعدهم للبيض في الأماكن العامة، وسنة 1955 ركبت الخياطة "روزا باركس" الحافلة واتخذت لها مقعدا فارغا وفي الأثناء صعد راكب ووقف أمامها لتعطيه مقعدها فأبت ذلك فتم إلقاء القبض عليها وإيداعها بالسجن فكان ذلك سببا لانتفاض السود الذين أعلنوا الإضراب عن ركوب الحافلة إلى أن صدر قرار عن المحكمة العليا في واشنطن سنة 1956 ليمنع التمييز العنصري في الحافلات ثم صدر قانون الحريات سنة 1964 الذي منع التمييز على أساس العرق، خلاصة القول أنه رغم بساطة الموقف فإنه كان سببا في منع التمييز والتصدي له.

وللمشرع دور مهم في ذلك، وهنا نتحدث عن الطريقة الثانية التي بها يمكن وضع حد للتميز وهي تشريعية بالأساس، تعويضية في الأثار، فللمشرع أن يضع قوانين تضمن للفئات التي مورس ضدها تمييز في السابق والمناطق المهمشة تعويضات في شكل امتيازات وهو بذلك يقر شكلا جديدا من أشكال التمييز لمجابهة التمييز في حد ذاته يسمى "التمييز الإيجابي".

فمصطلح التمييز يقوم أساسا على تناقض في محتواه، فلئن كان من الدارج اعتبار التمييز أمرا سلبيا فإن المشرع التونسي كرس تمييزا إيجابيا في قانون الاستثمار و هو يندرج في إطار ما يسمى الإنصاف وليس المساواة فهو آلية تعديلية، تفاضلية و انتقائية غير عادلة و لكنها منصفة لمناطق أو فئات تعتبر مهضومة الجانب و تهدف إلى الحد من الفوارق حتى و لو تبدو غير عادلة[3].

إذ لا تعتبر من قبيل التمييز التدابير التي يكون الغرض من اتخاذها تأمين التقدم لبعض الفئات والأفراد المحتاجة للحماية[4]. وبذلك نستخلص مفهوما إيجابيا للتميز يخرج به من المفهوم السلبي الضيق إلى مفهومه الإيجابي الواسع، وتتعدد التسميات المستعملة للدلالة على هذا النوع من التمييز مثل عبارة 

« affirmative action » أي العمل الإيجابي ويسمى في بعض دول أوروبا « discrimination positive » ويطلق عليه في بعض الدول الأخرى تسمية "الأعمال التفضيلية" "آليات الإنعاش الملائم للأقليات" أو "المساواة الرافعة لمستوى الأقوياء".

الواضح إذن أن التسميات تتعدد لكنها في مجملها ليست إلا وصفا لجزء من محتوى الفكرة ولا تشمل كافة جوانبها.

أما اصطلاحا فإنه يمكن ترجمة هذا المفهوم من اللغة الإنجليزية إلى العربية بعبارة "العمل الإيجابي" [5]وهو يشير أساسا إلى عدد من الأساليب الرامية إلى مواجهة آثار التمييز في الماضي وللمساعدة على إلغاء الصور النمطية فهو عمل تقوم به الدول لتعويض جماعة عن تمييز حصل في السابق على أساس اختلاف النوع، العرق، الدين، أو الوظيفة...[6]

تاريخيا دخلت تقنية التمييز الإيجابي إلى النظام القانوني التونسي من خلال ما صادقت عليه تونس من اتفاقيات دولية في ستينات القرن الماضي، لكن استخدام عبارة التمييز الإيجابي في التشريع اقترنت بقانون المصادقة على الميثاق العربي لحقوق الإنسان لسنة 2004 وهو القانون الذي أعطى فرصة مباشرة للمجلس الدستوري في بيان مفهوم التمييز الإيجابي وأحكامه، أما في قانون الاستثمار فقد اعتمده المشرع في مجلة التشجيع على الاستثمار المؤرخة في 17 ديسمبر 1993 وتدعم في ظل أحكام القانون المؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار والقانون الصادر في 14 فيفري 2017 المتعلق بمراجعة منظومة الامتيازات الجبائية والأمر الحكومي الصادر في 9 مارس 2017 المتعلق بالحوافز المالية لفائدة الاستثمارات المنجزة في إطار قانون الاستثمار.

إلا أن الظهور الأساسي للتمييز الإيجابي يعود إلى سنة 1961 وكان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية لتعديل التمييز الذي يعيشه السكان السود[7]، ثم في فترة الثمانينات انتشر اعتماده في فرنسا، البرازيل ثم وصل إلى جنوب أفريقيا لفائدة الأقليات في كل المجالات.

هذا التكريس التاريخي للتمييز الإيجابي يعكس ما له من أهمية فعلى أساسه تبتكر سياسات وتوضع آليات بهدف سد الفجوة بين فئة اجتماعية وأخرى وهو ما تم اعتماده في قانون الاستثمار، حيث اعتمد المشرع التونسي التمييز الإيجابي كآلية للقضاء على التمييز السلبي الذي مورس ضد المناطق الداخلية التي تركزت المشاريع الاستثمارية بعيدا عن نطاقها الجغرافي وهو ما ساهم في تهميشها وتعميق الفجوة بينها وبين غيرها من الجهات المستقطبة للاستثمارات.

 هذا الخيار تم  تفعيله على المستوى العملي فكان له من النتائج الإيجابية. ورغم تعدد النقائص فإن أقل ما يقال عنه أنه خيار فعال فرغم تعارضه مع مبدأ المساواة فهو يظل تمييزا إيجابيا المفهوم والمفعول وهو ما يسوقنا إلى طرح الإشكالية التالية:

كيف وظف المشرع التونسي التمييز الإيجابي في قانون الاستثمار؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية سنتطرق إلى جزأين رئيسيين:

الجزء الأول عنوانه: التمييز الإيجابي آلية تعويضية في قانون الاستثمار

وعنوان الجزء الثاني: التمييز الإيجابي آلية تشجيعية للاستثمار.

فنبين من خلال ذلك أن التمييز الإيجابي يمثل حلا لما مورس من تمييز سلبي في السابق ضد فئات وجهات مهمشة من خلال إقرار جملة من الامتيازات المالية والجبائية ذات الصبغة التعويضية.

وهو في الآن ذاته يمثل عاملا للتشجيع على الاستثمار من خلال خلق نشاطات حيوية تحظى بالتمييز ومن خلال تحفيز الباعثين الشبان على الاستثمار.

I - التمييز الإيجابي آلية تعويضية في قانون الاستثمار

سنحاول في هذا الجزء من الموضوع أن نبين أوجه التمييز الإيجابي المعتمدة في قانون الاستثمار كحل للتمييز السلبي، فمن مورس ضده تمييز سلبي في الماضي سيتمتع بتمييز لفائدته في الحاضر فيتم بذلك معالجة التمييز السلبي بالتمييز الإيجابي، وتفعيلا لذلك أقر المشرع حوافز مالية وجبائية موزعة بين مجموعتين وهو ما سنقوم بتحليله وتفسيره في نقاط محددة.

فالتمييز هو بالأساس مصطلح يقوم على تناقض في محتواه فلئن كان من الدارج اعتبار التمييز أمرا سلبيا فإنه من الممكن أن يكون له مدلول إيجابي. وإن تماهى في مفهومه السلبي مع اللامساواة فإنه في مفهومه الإيجابي يعني اعتماد مبدأ الأفضلية تجاه الأقلية سعيا لإصلاح التمييز الذي مورس ضدهم في السابق، وباعتباره تعويضا عن التمييز السلبي الذي حصل لهم فهو يعد ضمانا حقيقيا للوصول إلى أكبر قدر من المساواة بين مكونات المجتمع[8]، الأمر الذي يكسبه مشروعيته ويبرر اعتماده كآلية تعويضية تتماشى مع المواثيق الدولية واتفاقيات حماية الأقليات وفقه القانون الحديث وأخذت به الديمقراطيات العريقة والحديثة على السواء وهو مبدأ نص عليه الدستور التونسي[9]. وعلى هذا الأساس كرس المشرع التمييز الإيجابي في قانون الاستثمار وهو ما بدا جليا في ما اعتمده من أحكام صلب مجلة التشريع على الاستثمار المؤرخة في 27 ديسمبر 1993 وفي إطار القانون الجديد للاستثمار في تونس المتمثل في القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار والقانون عدد 8 لسنة 2017 المؤرخ في 14 فيفري 2017 المتعلق بمراجعة منظومة الامتيازات الجبائية والأمر الحكومي عدد 389 لسنة 2017 المؤرخ في 9 مارس 2017 المتعلق بالحوافز المالية لفائدة الاستثمارات المنجزة في إطار قانون الاستثمار.

فبهدف تعويض الجهات المهمشة في إطار مزيد من تحفيز المبادرة الخاصة ورفع نسق إحداث المؤسسات وتطوير الاستثمارات والتشغيل أقر المشرع تمييزا إيجابيا لفائدة بعض الجهات التي مورس ضدها تمييز سلبي في السابق من خلال تهميشها وذلك بتمكينها من استقطاب الاستثمارات والمشاريع بما يساهم في تنميتها من خلال إقرار جملة من الحوافز المالية والإعفاءات الجبائية من أجل تحقيق التنمية الجهوية.

فمنذ مجلة التشجيع على الاستثمار يسعى المشرع إلى تشجيع التنمية الجهوية، فقام بإدراجها في العنوان الرابع من المجلة ونص في الفصل 23 من هذه المجلة على أن تنتفع الاستثمارات المنجزة من قبل المؤسسات بمناطق تشجيع التنمية الجهوية التي تضبط قائمتها حسب الأنشطة بأمر في قطاعات الصناعة والسياحة والصناعات التقليدية وبعض أنشطة الخدمات التي تضبط كذلك قائمتها بأمر بجملة من التشجيعات منها طرح المداخيل والأرباح المتأتية من هذه الاستثمارات من أساس الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات خلال 5 سنوات بالنسبة للمجموعة الأولى من مناطق تشجيع التنمية الجهوية ابتداء من تاريخ الدخول في طور النشاط الفعلي وخلال 10 سنوات بالنسبة للمجموعة الثانية وبالنسبة إلى مناطق تشجيع التنمية الجهوية ذات الأولوية.

نبدأ أولا بالحوافز المالية فمن الواضح أن مجلة التشجيع على الاستثمار قد تميزت بتمش إستراتيجي في اتجاه تقليص البيروقراطية وفيها تكريس للتمييز الإيجابي للجهات المهمشة فهو قانون إصلاحي بامتياز لذلك لم يحد المشرع سنة 2016 عن هذا التوجه وتمسك بإقرار التمييز الإيجابي من خلال اتخاذ إجراءات تفضيلية لفائدة المناطق الداخلية بمنحها حقوقها التي سلبت منها في الماضي في شكل حوافز مالية وإعفاءات جبائية موزعة حسب الجهات مقسمة في إطار مجموعات، فحسب القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرخ في 30 سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار ورد في الفصل التاسع منه أن تسند منح بعنوان إنجاز عمليات الاستثمار منها منحة الترفيع في القيمة المضافة والقدرة التنافسية، منحة تطوير القدرة التشغيلية، منحة التنمية المستدامة بعنوان استثمارات مقاومة التلوث وحماية البيئة وأساسا منحة التنمية الجهوية اعتمادا على مؤشر التنمية الجهوية في بعض الأنشطة بعنوان: إنجاز عمليات الاستثمار المباشر والمصاريف الناتجة عن أشغال البنية الأساسية.

فبهدف تحقيق التنمية الجهوية أقر المشرع تمييزا إيجابيا للمناطق الداخلية موزعة بين مجموعتين من مناطق التنمية الجهوية لذلك يكون مهما تحديد الحوافز المالية والامتيازات الجبائية المقررة في إطار قانون الاستثمار باعتبارها عامل تمييز إيجابي ثم تحديد قائمة الجهات المنتفعة بهذه الامتيازات.

إذ سعى المشرع التونسي إلى تعويض الجهات المهمشة تصحيحا للمسار وتعويضا عن التمييز السلبي الذي مورس ضدها في السابق وذلك من خلال إقرار جملة من الامتيازات لفائدتها والتي يمكن حصرها فيما يلي:

- منحة التنمية الجهوية الموزعة بين مجموعتين حيث تنتفع المجموعة الأولى من مناطق التنمية الجهوية بمنحة تقدر ب15 %  من كلفة الاستثمار المصادق عليه مع سقف ب1.5 مليون و65 % من أشغال البنية الأساسية في قطاع الصناعة وذلك في حدود 10% من كلفة المشروع مع سقف 1 مليون دينار أما المجموعة الثانية من مناطق التنمية الجهوية فهي تستفيد ب30% من كلفة الاستثمارات المصادق عليها مع سقف 3 مليون دينار و85 % من مصاريف أشغال البنية الأساسية في قطاع الصناعة وذلك في حدود 10 % من كلفة المشروع مع سقف 1 مليون دينار.

- منحة تطوير القدرة التشغيلية حيث تتكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان من ذوي الجنسية التونسية المنتدبين لأول مرة للمجموعة الأولى من مناطق التنمية الجهوية لمدة خمسة سنوات ابتداء من تاريخ الدخول في طور النشاط الفعلي والمجموعة الثانية من مناطق التنمية الجهوية لمدة 10 سنوات الأولى ابتداء من تاريخ الدخول في طور النشاط الفعلي.

- المساهمة في رأس المال التي تسند لفائدة المؤسسات المحدثة التي لا يتجاوز حجم استثماراتها 15 مليون دينار.

وتضاف إلى هذه الامتيازات المالية حوافز جبائية[10] تتمثل أساسا في إعفاءات بعنوان إعادة الاستثمار خارج المؤسسة وأخرى بعنوان الاستغلال تختلف بين مناطق المجموعة الأولى ومناطق المجموعة الثانية حيث يتم طرح كلي للضريبة لمدة 5 سنوات الأولى وبعد 5 سنوات اعتماد نسبة 10%  بالنسبة للضريبة على الشركات وطرح ثلثي المداخيل من قاعدة الضريبة على الدخل بالنسبة للأشخاص الطبيعيين.

أما المجموعة الثانية فهي تتمتع بطرح كلي للضريبة لمدة ال10 سنوات الأولى وبعد 10 سنوات اعتماد نسبة 10 % بالنسبة للضريبة على الشركات وطرح ثلثي المداخيل من قاعدة الضريبة على الدخل بالنسبة للأشخاص الطبيعيين.

الواضح إذن أن هناك توزيع تفاضلي للامتيازات والإعفاءات الجبائية بين مجموعتين من الجهات، حيث تضم المجموعة الأولى جهات من زغوان (بير المشارقة،الزريبة...) وسوسة (سيدي الهاني ...) وباجة مثل مجاز الباب وصفاقس (عقارب،جبنيانة،العامرة، الصخيرة...) أما المجموعة الثانية فهي تضم أكثر جهات موزعة بين عدة ولايات مثل بنزرت ( جومين،غزالة،سجنان...) وزغوان (الفحص،الناظور...) والقيروان (القيروان الشمالية،القيروان الجنوبية،حفوز...) والمهدية مثل السواسي، وباجة (باجة الشمالية،باجة الجنوبية،تبرسق...) وجندوبة (جندوبة الشمالية،جندوبة الجنوبية،طبرقة،عين دراهم...) والكاف (غريبة،تاجروين...) وسليانة (بوعرادة،الكريب...) والقصرين (سبيطلا،القصرين الجنوبية،القصرين الشمالية...) وقفصة (أم العرايس،الرديف، المتلوي...) وقبلي (سوق الأحد، قبلي الجنوبية ، قبلي الشمالية...) وتوزر (دقاش، توزر الجنوبية، توزر الشمالية...) وقابس (مارث،الحامة،مطماطة...) ومدنين (بن قردان،سيدي مخلوف، بني خداش...) وتطاوين (تطاوين الشمالية،تطاوين الجنوبية،بئر الأحمر،رمادة،الذهيبة...).

إجمالا يمكن القول أن المشرع قد أقر تمييزا لفائدة بعض الجهات إلا أن هذا التمييز يعد إيجابيا لأنه أقر أساسا لتعديل اللامساواة التي مورست من قبل ضد هذه الجهات فهي تقنية تعتمد لتفعيل مبدأ المساواة لا للحد منه وإن كانت عبارة تمييز توحي بخلاف ذلك فمن المتفق عليه أن المساواة المطلقة ماهي إلا ظلم مطلق[11] لأن البشر بطبيعتهم مختلفون لذلك تكون فكرة المساواة حسب الأصناف مقبولة وهو ما كرسه فقه القضاء الدستوري عندما دافع عن فكرة التمييز الهادف أي التمييز من أجل التعويض عن الحرمان السابق.

الواضح من خلال ما سبقت الإشارة إليه في الجزء الأول أن المشرع التونسي وظف التمييز تحقيقا للتنمية الجهوية وكآلية تعديلية وتعويضية تحد من التمييز الذي مورس في السابق ضد فئات معينة في مجال الاستثمار وهو ما ساهم بطريقة غير مباشرة في جعله عاملا من العوامل المشجعة للاستثمار أساسا في تلك الجهات المتمتعة بالتمييز الإيجابي، وهو ما يحيلنا إلى الجزء الثاني من هذه المداخلة.

II-التمييز الإيجابي آلية تشجيعية للاستثمار

يعتبر الاستثمار خير وسيلة لإنماء المكاسب وتطوير القدرات التنافسية تحقيقا للتنمية الشاملة التي تمر وجوبا عبر التنمية الاقتصادية، ويعد التطور الاقتصادي من أهم المعايير المحددة لمدى تقدم الدول التي أولت الاهتمام بالاستثمار كوسيلة لتدعيم الاقتصاد، هذه الأهمية جعلت المشرع التونسي في سنه لقانون الاستثمار يركز على خلق أرضية مناسبة للاستثمار قوامها التمييز الإيجابي فلئن وقع إقراره بالنسبة لبعض الجهات كتعويض وتعديل لما مورس ضدها من تمييز سلبي في السابق فإنه تم اعتماده كعامل تشجيع ودفع للاستثمار في بعض النشاطات وتحفيز المستثمرين الشبان على وجه الخصوص.

التمييز الإيجابي قد يصبح إذن عاملا من العوامل المشجعة للاستثمار في قطاعات محددة ولأشخاص معينين من الشبان المعطلين عن العمل.

إذ تتعدد النشاطات التي شملها التمييز الإيجابي من ذلك ما اصطلح على تسميته التنمية الفلاحية حيث تطرح من أساس الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين أو الضريبة على الشركات كليا خلال العشر سنوات الأولى ابتداء من تاريخ الدخول في طور النشاط الفعلي المداخيل أو الأرباح المتأتية من  الاستثمارات المباشرة على معنى الفصل 3 من قانون الاستثمار في قطاع الفلاحة والصيد البحري، وبهذا المعنى يحظى قطاع الفلاحة والصيد البحري بتمييز مقارنة ببقية القطاعات بهدف تشجيع الاستثمار في مثل هذه القطاعات. 

أيضا يطرح من أساس الضريبة على الدخل ثلثا المداخيل المتأتية من الاستثمارات المباشرة على معنى الفصل 3 من قانون 2016 الاستثمارات التي تنجزها مؤسسات العناية بالطفولة ورعاية المسنين والتربية والتعليم والبحث العلمي ومؤسسات التكوين المهني ومؤسسات الإنتاج والصناعات الثقافية والتنشيط الشبابي والترفيه والمؤسسات الصحية والإستشفائية والاستثمارات المباشرة على معنى الفصل 3 من قانون الاستثمار من مشاريع السكن الجامعي الخاص وتضبط الأنشطة المعنية بمقتضى أمر حكومي[12].

كذلك الاستثمارات المباشرة على معنى الفصل 3 من قانون الاستثمار لسنة 2016 التي تنجزها المؤسسات التي تختص في جمع أو تحويل أو تثمين أو رسكلة أو معالجة الفضلات والنفايات.

إجمالا تم إقرار عدة حوافز وإعفاءات جبائية تخص الاستثمار في القطاع الفلاحي والصيد البحري وهو ما يدرج في إطار التنمية الفلاحية وتم إقرار نفس الامتيازات بالنسبة للأنشطة المساندة ومقاومة التلوث وبذلك يكون للتمييز دور إيجابي من خلال رفع نسق الاستثمار في نشاطات معينة تعتبر حيوية وضرورية لتحريك العجلة الاقتصادية.

 وتحقيقا لنفس الهدف تم إقرار إعفاءات وامتيازات جبائية للباعثين الشبان، إذ تطرح كليا وفي حدود الدخل أو الربح الخاضع للضريبة المداخيل أو الأرباح المعاد استثمارها في الاكتتاب من قبل الشبان أصحاب الشهائد العليا الذين لا تتجاوز أعمارهم 30 سنة في تاريخ تكوين الشركة والذين يتحملون مسؤولية التصرف في المشروع بصفة شخصية ودائمة.

و يشترط للانتفاع بالتشجيعات المذكورة توفر جملة من الشروط تتمثل أساسا في :

- مسك محاسبة طبقا للتشريع المحاسبي للمؤسسات بالنسبة إلى الأشخاص الذين يمارسون نشاطا صناعيا أو تجاريا أو مهنة غير تجارية كما تم تعريفها بهذه المجلة.

- أن تكون الأسهم أو المنابات الاجتماعية جديدة الإصدار .

- أن لا يتم التخفيض في رأس المال المكتتب لمدة خمس سنوات ابتداء من غرة جانفي للسنة الموالية للسنة التي تم فيها تحرير رأس المال المكتتب باستثناء حالة التخفيض لاستيعاب الخسائر .

- أن يرفق المنتفعون بالطرح التصريح بالضريبة على الدخل الأشخاص الطبيعيين أو الضريبة على الشركات بشهادة تحرير لرأس المال المكتتب أو ما يعادلها.

- عدم التفويت في الأسهم أو في المنابات الاجتماعية التي خولت الانتفاع بالطرح قبل موفى السنتين المواليتين لسنة تحرير المال المكتتب .

- عدم التنصيص ضمن الاتفاقيات المبرمة بين الشركات و المكتتبين على ضمانات خارج المشاريع أو على مكافآت غير مرتبطة بنتائج المشروع موضوع عملية الاكتتاب.

- رصد الأرباح أو المداخيل المعاد استثمارها في حساب خاص بخصوم الموازنة غير قابل للتوزيع إلا في صورة التفويت في الأسهم أو المنابات الاجتماعية التي خولت الانتفاع بالطرح و ذلك بالنسبة للشركات   و الأشخاص الذين يمارسون نشاطا صناعيا أو تجاريا أو مهنة غير تجارية .

وبهذا المعنى أيضا يكون التمييز الإيجابي عاملا مشجعا للاستثمار.

إجمالا يمكن القول إن التمييز الإيجابي مهم وفعال لكنه يبقى محل انتقاد[13]،  فلئن وقع توظيف التمييز بشكل ايجابي في قانون الاستثمار باعتباره يمثل حلا من الحلول المعتمدة للقضاء على التميز السلبي و دفع عجلة الاستثمار فانه يبقى حلا وقتيا و يطرح في حد ذاته عدة إشكالات .

فالتمييز يوجد بين حدي نقيض فلئن كان الهدف من تكريسه تحقيق العدالة الاجتماعية فان فيه خرق لمبدأ العدالة باعتباره يمكن من المرور بعد خرق مبدأ المساواة إلى مفهوم الإنصاف الذي يقتضي بالضرورة اللامساواة في المعاملة .

ثم إن إقرار التمييز الايجابي لبعض المناطق يمر بالضرورة عبر التمييز السلبي لمناطق أخرى كما من شأنه أن يخلق عند المتمتع به شعورا بالدونية و الاستنقاص و هو ما من شأنه أن يشجع الجهويات و يرسخها .

و يثار أيضا إشكال أخر يتعلق بالحيز الزماني الذي يكرس فيه التمييز الايجابي فليس من المقبول إعطاء هذه الأفضلية على المدى البعيد ففي جميع الأحوال يبقى التمييز الايجابي حلا وقتيا و غير كاف لفك مسالة التبعية الاقتصادية و أسبقية مناطق على حساب أخرى.

لذلك يبقى هذا الشكل من التمييز حلا وقتيا ينتهي بانتهاء الغاية من اعتماده إذ لا يمكن أن يكون حلا متواصلا في الزمن .

الخاتمة:

 إن ما أقره المشرع من امتيازات وحوافز لفائدة جهات كانت مهمشة يدخل في إطار التمييز لكن بمفهوم إيجابي يخرج بنا عن المفهوم السلبي المتداول بل أكثر من ذلك يمكن اعتباره حلا تشريعيا مهما للقضاء على التمييز السلبي، ورغم ما يمكن أن يلحق به من انتقادات كاعتباره غير عادل أو غير مشروع فإنه يبقى حلا مبررا وحافزا للاستثمار وخطوة إيجابية في إطار ظرفية متذبذبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فالتمييز اعتمد في قانون الاستثمار كآلية تعديله ليست عادلة بالضرورة ولكنها منصفة لفئات تعتبر مهضومة الجانب من خلال الحد من الفوارق وهذا في حد ذاته أمر إيجابي حتى وإن كانت وسيلتنا في ذلك التمييز ضد التمييز.

 

 

 لائحة المراجع:

مجلة التشجيع على الاستثمار المؤرخة في 27 ديسمبر 1993، القانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار، القانون عدد 8 لسنة 2017.

مراجة منظومة الامتيازات الجبائية، الأمر الحكومي عدد 389 المؤرخ في 9 مارس 2017 المتعلق بالحوافز المالية لفائدة الاستثمارات المنجزة في إطار قانون الاستثمار.

عمر بالهادي: التمييز الإيجابي كوسيلة للإدماج كوسيلة للإدماج والإنصاف الترابي الرهانات والتحديات، يوم دراسي مبدأ التمييز الإيجابي: المفاهيم وآليات التفعيل.



[1] حسب المادة الأولى من الإتفاقية الخاصة بالقضاء على جميع صور الميز العنصري:" أي تمييز أو إستثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الأثيني ويستهدف ويستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الانسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان اخر من ميادين الحياة العامة".

[2]  مجلة التشجيع على الاستثمار المؤرخة في 27 ديسمبر 1993، القانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30سبتمبر 2016 المتعلق بقانون الاستثمار، القانون عدد 8 لسنة 2017 مؤرخ في 14 فيفري 2017 المتعلق بمراجة منظومة الامتيازات الجبائية، الأمر الحكومي عدد 389 المؤرخ في 9 مارس 2017 المتعلق بالحوافز المالية لفائدة الاستثمارات المنجزة في إطار قانون الاستثمار.

[3] عمر بالهادي: التمييز الإيجابي كوسيلة للإدماج كوسيلة للإدماج والإنصاف الترابي الرهانات والتحديات، يوم دراسي مبدأ التمييز الإيجابي: المفاهيم وآليات التفعيل ص 1.

[4] المادة 1-4 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالقضاء على جميع صور الميز العنصري.

[5] هاجر الهيشري :(مرجع سابق) ص 3 .

[6] هاجر الهيشري : (مرجع سابق) ص 2 .

[7] عمر بالهادي : التميز الإيجابي كوسيلة للإدماج و الإنصاف الترابي الرهانات و التحديات، يوم دراسي برلماني، مبدأ التمييز الإيجابي المفاهيم وأليات التفعيل، 3 جويلية 2017 ، ص 1 .

[8] حسام الدين علي مجيد: سياسة التمييز و الكوتا النيابية: مقاربات إدارة التنوع الثقافي:" هذه السياسات تتكامل مع بعضها البعض من حيث الوظيفة و الغاية النهائية المتمثلة في معالجة أزمة الاندماج ضمن مشروع بناء الدولة-الأمة جراء انبعاث الهويات و بروز حس التمايز الثقافي معززا بتراكم التفاوتات الاجتماعية و الاقتصادية مما يدفع بالدولة إلى التجاوب مع مطالب المكونات الثقافية المحرومة من خلال تسوية تلك التفاوتات أو التقليص منها عبر استحداث الاليات الملائمة مثل سياسة التميز الايجابي و نظام الكوتا النيابية."ص 1.

[9]  ورد بالفقرة الأولى من الفص 12 من دستور 2014 ما يلي : " تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية و التنمية المستدامة و التوازن بين الجهات استنادا إلى مؤشرات التنمية و اعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي ".

[10] الفصل 63 من القانون عدد 8 لسنة 2017 مؤرخ في 14 فيفري 2017 يتعلق بمراجعة منظومة الامتيازات الجبائية.

[11] هاجر الهيشري (مرجع سابق) ص 22 .

[12]الأمر الحكومي عدد 389 لسنة 2017 مؤرخ في 9 مارس 2017 متعلق بالحوافز المالية لفائدة الاستثمارات المنجزة في إطار قانون الاستثمار.

[13] عمر بالهادي: التمييز الايجابي كوسيلة للإدماج و الانصاف الترابي الرهانات و التحديات، يوم دراسي برلماني:مبدأ التميز الايجابي، المفاهيم واليات التفعيل 3 جويلية 2017 ، ص 3 .


إرسال تعليق

0 تعليقات