آخر الأخبار

Advertisement

إشكالية توزيع السلط بالمغرب في مجال المعاهدات الدولية - الدكتور خالد حمدون - مجلة الباحث


                ذ/ خالد الحمدوني

حاصل على الدكتوراه في الحقوق، سلا

أستاذ زائر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال  

 

إشكالية توزيع السلط بالمغرب في مجال المعاهدات الدولية

مقدمــة:

       تلعب المعاهدات الدولية دورا كبيرا في مجال القانون الدولي من حيث احترام مبادئه وسيادة أحكامه، ليشكل بذلك الآلية الكفيلة لتنظيم العلاقات الدولية المعتمدة والمتشعبة، فتنظيم المجتمع الدولي، وضبط العلاقات الاقتصادية والسياسية والقانونية بين مختلف كياناته رهين بالقانون الدولي، هذا الأخير يتجسد في مجموع الاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها الدول فيما بينها.

       وفي هذا الصدد تندرج أهمية الموضوع الذي نحن بصدده كون الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 جاء ليعكس التطور القانوني والحقوقي الحاصل في المغرب، ومن ضمن المقتضيات الجديدة التي تضمنها الدستور الجديد هي إعطاء أهمية للاتفاقيات الدولية المصادق عليها.

       ومن هنا سنقف اليوم وقفات عديدة في نصوص الدستور المغربي لكي نعالج إشكالية تفاعله مع المعاهدات الدولية من مختلف الزوايا والنقاط القانونية التي يمكن أن تثار في إطار العلاقة بين الاتفاقيات الدولية والتشريع الداخلي.

       وكل ذلك سنبحثه في فصلين نخصص الأول لبحث السلطات المختصة بقبول المعاهدات والمصادقة عليها وتوقيعها ونشرها في حين سنخصص الفصل الثاني لبحث سلطات الرقابة على المعاهدات الدولية، ولكن قبل الخوض في صلب الموضوع لابد من التمهيد ببيان مفهوم المعاهدة ومراحل إبرامها وتوقيعها وتصديقها.

المطلب التمهيدي: مفهوم المعاهدات الدولية ومراحل إبرامها والالتزام بها والتصديق عليها ونشرها.

       سنبين في هذا الفصل مفهوم المعاهدة الدولية، وكذا المراحل التي تمر منها قبل اعتمادها بشكل نهائي، ثم حالات الالتزام بها والطرق المتبعة في ذلك، وأخيرا عملية نشرها.

الفرع الأول: مفهوم المعاهدة الدولية

       المعاهدة الدولية أو الاتفاقية، هي اتفاقيات تعقدها الدول فيما بينها بغرض تنظيم علاقة قانونية دولية وتحديد القواعد التي تخضه لها هذه العلاقة[1]. وعرفتها اتفاقية ﭭيينا المتعلقة بقانون المعاهدات لسنة 1966:" بأنها اتفاق دولي أبرم كتابة بين الدول وينطبق عليه القانون الدولي، وذلك سواء كانت المعاهدة مضمنة في وثيقة أو في وثيقتين أو عدة وثائق مرتبطة ببعضها ومهما كانت التسمية الخاصة المطلقة عليها"[2]. وتصنف المعاهدات حسب عدة معايير، فمن حيث الموضوع، تنقسم المعاهدات إلى معاهدات سياسية واجتماعية واقتصادية، ومن حيث الطبيعة تنقسم المعاهدات إلى معاهدات تعاقدية خاصة ومعاهدات شارعة عامة، أما من جانب الأطراف، فنجد المعاهدات ثنائية وجماعية، ومن جانب الحيز الجغرافي تقسم إلى معاهدات إقليمية وعالمية، ووفقا لصفة المتعاقدين، تقسم إلى معاهدات بين الدول ومعاهدات بين المنظمات وثالثة بين الدول والمنظمات.

       أما من حيث الإجراءات المتبعة في إبرام المعاهدات فتسقم إلى معاهدات شكلية (مطوية) لا تنعقد إلا بإتمام مراحل ثلاث (المفاوضات – التوقيع-التصديق). واتفاقات مبسطة أو تنفيذية لا تستوجب لنفاذها سوى التفاوض والتوقيع. ويؤكد الفقه على أن لا خلاف بين هذين النوعين من حيث القيمة القانونية وقوتها الإلزامية في مواجهة أطرافها، كما لا تختلف من حيث أهمية المواضيع التي يسمونها بالتنظيم[3].

الفرع الثاني: مراحل إبرام المعاهدة الدولية

       تمر المعاهدة الدولية عند إبرامها وقبل أن يتم إبرامها نهائيا بعدة مراحل وهي التفاوض والتحرير والتوقيع.

1-التفاوض:

       تبدأ عملية صياغة الاتفاقية أو المعاهدة بمرحلة الاتصالات بين الدول المزمع إشراكها فيها للاتفاق مبدئيا على موضوعها، وعلى المضي قدما في إتخاذ الإجراءات اللازمة لإبرامها، ثم مرحلة المفاوضات بين الدول[4]، لتحديد المسائل التي سوف تتناولها أحكام المعاهدة ومناقشة هذه الأحكام والاتفاق بشأنها[5]، ومرحلة التفاوض بشأن الاتفاقية يمكن أن نسميها بمرحلة المخاض الذي تعرفه هاته الأخيرة قبل أن ترى النور.

2-التحريـــر:

       التحرير هي المرحلة التنفيذية، ويمكن أن نسيمها بمرحلة الولادة في مسار صياغة الاتفاقية الدولية، وهي تأتي إذا ما انتهت الدول الأطراف الاتفاق على فحواها، حيث تحرر المعاهدة أو الاتفاقية بلغة المتعاقدين وعادة ما تحرر بلغة كل واحد منها وبلغة أجنبية عنهما، ومهما تعددت اللغات التي حررت بها الاتفاقية فلها نفس الحجية.

       ويسبق تحرير الصيغة النهاية للاتفاقية بعض الإجراءات الشكلية،ومنها تفويضات مندوبي الدول المشتركة فيها لتأكد من أن المسائل المتفق بشأنها تدخل في حدود تفويض كل منهم، وذلك حتى لا تكون المعاهدة عرضة لعدم التصديق عليها من إحدى هذه الدول بحجة أن مندوبها قد تعدى حدود توكيله.

       وتأخذ الصيغة النهائية للاتفاقية شكل هندسي يبدأ بمقدمة أو ديباجة، ويلي ذلك صلب الاتفاقية، وتختم الاتفاقية بعد ذلك بتوقيعها ممثلي الدول المشتركة في إبرامها.

       وغالبا ما تصحب الصيغة الأصلية للاتفاقية ملحقات باسم تصريح أو بروتوكول أو ملحق لتفسير بعض النصوص الواردة في ذات المعاهدة أولا لإيضاح وجهة نظر بعض الدول بشأنها، ولها نفس الشروط ونفس قيمة المعاهدة نفسها.

3 التوقيــــع:

       بعد تحرير المعاهدة تأتي مرحلة توقيعها، فتوقيع المعاهدة يترجم تعبير الدولة الموقعة عن رضاها بأن تكون مرتبطة باتفاقية دولية. ويوقع عليها ممثلو الدول المتفاوضة لكي يحلوا ما  تم الاتفاق عليه في بينهم، وقد يتم التوقيع بـأسماء المفاوضين كاملة أو بالأحرف الأولى للأسماء، أو عن طريق التوقيع بشرط الرجوع إلى الحكومة.

الفرع الثالث: صور الالتزام بالمعاهدة الدولية

       بعد إقرار نص المعاهدة، يكون على الدول الأطراف اعتمادها بشكل رسمي ونهائي، ويتم ذلك عن طريق إتباع الإجراءات المنصوص عليها في نصوص المعاهدة أو المتفق عليها فيما بين الدول المشتركة في صياغتها والتي تحدد آلية الاعتماد النهائي. وقد جرى العرف الدولي على أن المعاهدة لا تصبح سارية المفعول بمجرد التوقيع عليها من قبل ممثلي الدولة، إنما يلزم لنفاذها القيام بإجراءات وطنية لاحقة، وهذه الإجراءات تفيد قبول الدولة نهائيا الالتزام بها، وللتعبير عن هذا القبول وسائل مختلفة أشارت إليها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات في المادة11، وذلك بقولها: "يمكن التعبير عن رضا الدولة الالتزام بالمعاهدة بتوقيعها، أو بتبادل وثائق إنشائها، أو بالتصديق عليها، أو بالموافقة عليها، أو بقبولها، أو بالانضمام إليها، أو بأيـة وسيلة أخرى متفق عليها".[6]

أولا: التعبير عن الرضا بالالتزام بالمعاهدة بتوقيعها

1- تعبر الدولة عن رضاها الالتزام بالمعاهدة بتوقيعها من قبل ممثلها في إحدى الحالات الآتية:

(أ) إذا نصت المعاهدة على أن يكون للتوقيع هذا الأثر؛ أو

(ب) إذا ثبت بطريقة أخرى أن الدول المتفاوضة كانت قد اتفقت على أن يكون للتوقيع هذا الأثر؛ أو

(ج) إذا بدت نية الدولة المعينة في إعطاء التوقيع هذا الأثر من وثيقة التفويض الكامل الصادرة لممثلها أو عبرت الدولة عن مثل هذه النية أثناء المفاوضات.

2- لأغراض الفقرة الأولى:

(أ) يشكل التوقيع بالأحرف الأولى على نص المعاهدة توقيعاً على المعاهدة إذا ثبت أن الدول المتفاوضة قد اتفقت على ذلك؛

(ب) يشكل التوقيع بشرط الرجوع إلى الحكومة من قبل ممثل الدولة توقيعاً كاملاً على المعاهدة إذا أجازت دولته ذلك[7].

ثانيا: التعبير عن الرضا بالالتزام بالمعاهدة بتبادل وثائق إنشائها

تعبر الدول عن رضاها الالتزام بمعاهدة ناشئة عن وثائق متبادلة فيما بينها بمثل هذا التبادل في إحدى الحالتين التاليتين:

(أ) إذا نصت الوثائق على أن يكون لتبادلها هذا الأثر؛[8]

(ب) إذا ثبت بطريقة أخرى أن تلك الدول كانت قـد اتفقت على أن يكون لتبادل الوثائق هذا الأثر.

ثالثا: التعبير عن الرضا بالالتزام بالمعاهدة بالتصديق عليها أو بقبولها أو بالموافقة عليها

1- تعبر الدولة عن رضاها الالتزام بالمعاهدة بالتصديق عليها في إحدى الحالات التالية:

(أ) إذا نصت المعاهدة على أن التعبير عن الرضا يتم بالتصديق؛ أو

(ب) إذا ثبت بطريقة أخرى أن الدول المتفاوضة كانت قد اتفقت على اشتراط التصديق؛ أو

(ج) إذا كان ممثل الدولة قد وقع المعاهدة بشرط التصديق؛ أو

(د) إذا بدت نية الدولة المعنية من وثيقة تفويض ممثلها أن يكون توقيعها مشروطاً بالتصديق على المعاهدة، أو عبرت الدولة عن مثل هذه النية أثناء المفاوضات.

2- يتم تعبير الدولة عن رضاها الالتزام بالمعاهدة عن طريق قبولها أو الموافقة عليها بشروط مماثلة لتلك التي تطبق على التصديق[9].

رابعا: التعبير عن الرضا بالالتزام بالمعاهدة بالانضمام إليها

تعبر الدولة عن رضاها الالتزام بالمعاهدة بالانضمام إليها في إحدى الحالات التالية:

(أ) إذا نصت المعاهدة على أن التعبير عن الرضا يتم بالانضمام؛ أو

(ب) إذا ثبت بطريقة أخرى أن الدول المتفاوضة كانت قد اتفقت على أن التعبير عن الرضا يتم بالانضمام؛ أو

(ج) إذا اتفقت جميع الأطراف فيما بعد على أن التعبير عن الرضا يتم بالانضمام[10].

 

الفـــرع الرابع: نشر المعاهدة الدولية

       يحصل نشر المعاهدة الدولية بهذا التسجيل بالأمانة العامة للأمم المتحدة في أقرب وقت ممكن، ويكون النشر في مجموعة واحدة باللغة أو باللغات الأصلية، التي حررت بها المعاهدة متبوعة بترجمة إلى الإنجليزية أو الفرنسية.

وتبعث الأمانة بهذه المجموعة إلى جميع أعضاء الأمم المتحدة، هذا على مستوى الأمم المتحدة، أما على المستوى الداخلي لكل دولة، فإن كل دولة تقوم بنشر المعاهدة وفق الكيفيات القانونية الخاصة بها، والآليات المتاحة لذلك.

1- يتم تسجيل المعاهدة لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة وهذا الإجراء فرضته هيئة الأمم المتحدة في نص الفقرة الأولى من المادة 102 من الفصل السادس عشر من ميثاق الأمم المتحدة على أن كل معاهدة وكل اتفاق دولي يعقده عضو من أعضاء الأمم المتحدة بعد العمل بهذا الميثاق يجب أن يسجل في أمانة الهيئة وأن تقوم بنشره بأسرع ما يمكن.

المطلب الأول: سلطات إبرام المعاهدات في المغرب

       في المغرب يختص الملك بالتوقيع والمصادقة على المعاهدات الدولية، كما البرلمان يختص بالموافقة القبلية على بعض المعاهدات ليتم المصادقة عليها من طرف الملك، في حين تختص الحكومة بالتنفيذ المادي للمعاهادة.

الفـــرع الأول: سلطات الملك

       إن الاختصاص الذي يوليه، الدستور للملك في ميدان إبرام المعاهدات الدولية هو التوقيع والتصديق.

التوقيع: كقاعدة عامة، فإن المفاوضين هم الذين يوقعون الاتفاقية، حيث إنه من المنطقي أن التوقيع ليس سوى النتيجة الطبيعية للمفاوضات.

التوقيع: إذن، هو اختصاص ينفصل تماما عن التصديق، هذا المصطلح يتواجد في الدستور المغربي لسنة 1996، ودستور 2011، حيث أن الملك هو الذي يوقع ويصادق على الاتفاقيات الدولية، وكذلك ينص الدستور الفرنسي حيث أن رئيس الجمهورية هو الذي يوقع ويصادق على الاتفاقيات.   وإذا كان الملك في المغرب حسب دستور 2011 يوقع ويصادق على المعاهدات، فإن إجراء التوقيع يمكن تفويضه من الناحية العملية لرئيس الوزراء أو وزير الخارجية أو لأي وزير آخر بمقتضى وثيقة التفويض الكامل.

التصديق: على مستوى القانون العام الداخلي، فإن التصديق يشكل اختصاصا أصيلا ومطلقا للملك، فقد رسخه القانون الدستوري، وكرسته السياسة الخارجية المغربية، باعتبار أن الملك فاعل مركزي وأساسي في صنع السياسة الخارجية، وأن المعاهدات الدولية هي وجه من وجوه السياسة الخارجية، وهاته الأخيرة هي مجال محفوظ في المشهد السياسي المغربي للملك، لذلك جاءت المادة 55 من دستور 2011  مكرسة لهذا التوجه بقولها:" أن الملك هو الذي يوقع ويصادق على المعاهدات الدولية"، إذن على المستوى القانوني والسياسي فإن الملك هو الذي يسـتأثر بسلطة التصديق على المعاهدات، وهو اختصاص مهم يستأثر به الملك باعتباره رأس هرم الدبلوماسية بالمغرب، أما على مستوى الممارسة، فإن التصديق يأخذ شكل "رسائل التصديق" التي تكون وثيقة مكتوبة بواسطتها يصرح الملك بقبوله ومصادقته على المعاهدة الدولية ووعده بتطبيقها.

الفرع الثاني: سلطـــات البرلمـــان

       مع بزوغ أنظمة الحكم الديمقراطية وشيوع مبدأ فصل السلطات، وتأكيد الرقابة البرلمانية على أعمال السلطة التنفيذية أخذت الممارسة تتجه نحو منح السلطة التشريعية دورا في التصديق على الاتفاقيات إلى جانب السلطة التنفيذية[11].

       ومن الواضح، أن الدستور المغربي كغيره من الدساتير قد نظم إشكالية توزيع الاختصاصات بين الملك والبرلمان فيما يخص المعاهدات، فالفصل 55 من دستور 2011 كان واضحا عندما نص صراحة على أن الملك يوقع على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الإتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون".

الملاحظة الأولى التي يطرحها الفصل 55 من الدستور هي إضافة نماذج جديدة لمعاهدات يحتاج الملك للتصديق عليها قانونا من البرلمان، إذ أنها حددت في معاهدات السلم أو الإتحاد أو تلك التي تترتب عنها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين العامة أو الخاصة. هنا يمكن الحديث عن توسيع الصلاحيات التشريعية للبرلمان في دستور 2011،[12] وذلك فيما يتعلق بالسلطات الدبلوماسية والسياسية الخارجية للدولة بصفة عامة، لكن يبقى هذا التوسع منحصرا في الجانب الكمي، وليس كما ذهب البعض إلى الحديث عن وجود نوع من التوازن في الإختصاص بين الملك والبرلمان في المجال الدبلوماسي[13]، ذلك ان سلطات البرلمان تنحصر في منح الإذن بالمصادقة فقط.

       وما يؤكد نظرية استمرار الإختلال في التوازن بين سلطة البرلمان وباقي السلط في إبرام المعاهدات هو ما نلاحظه في المستوى الثاني على الفصل 55 من دستور 2011، حيث حافظ على القاعدة الأساسية المكرسة في دستور 1996، بأن الملك يوقع ويصادق على جميع المعاهدات كقاعدة أصلية مع وجود استثناء وهي قاعدة أعيد إنتاجها في دستور 2011، إذ أن الملك هو الذي يوقع ويصادق على المعاهدات كاختصاص أصلي مع فارق التوسيع في الاستثناءات فقط، فحسب مضمون الفصل 55 تتحاج المصادقة على معاهدات السلم أو الإتحاد أو تلك التي تهم رسم الحدود، ومعاهدا التجارة، إلى غير ذلك... إلى قانون يوافق عليها، إذن فاختصاص البرلمان في هذه الحالة هو قبول أو رفض إعطاء الإذن بالمصادقة وليس المصادقة في حد ذاتها، أو التدخل لتعديل الاتفاقية[14].

       هنا يمكن أن نشير الى حقيقة وهي أنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الدستوري للمغرب قيام مجلس النواب برفض إعطاء الإذن بالمصادقة، فيما يخص الإذن بالمصادقة على المعاهدات الملزمة لمالية الدولة المغربية، وبالمقابل فقد أعطى الإذن بذلك في الكثير من الحالات. لكن مع ذلك يبقى دور البرلمان في مراقبة التصديق على المعاهدات دورا مهما لاسيما في ظل الدستور الحالي، الذي وسع من الصلاحيات الممنوحة للبرلمان في هذا الاتجاه، فالمشرع يبتغي من خلال هذا التشريع تطوير مساهمة البرلمان في مراقبة المعاهدات التي تكون لها انعكاسات إما على وضع الدولة، كمعاهدات السلم أو الإتحاد أو الحدود، أو يكون لها انعكاسات على الوضع الاقتصادي للدولة كمعاهدات التجارة. أو لها انعكاسات على الأفراد كالمعاهدات المتعلقة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.

       وأكيد أن هذا التوسع، يبين بجلاء الموقع الذي سيحتله البرلمان باعتباره تعبيرا عن إرادة الأمة فيما يتعلق بتدبير السياسة الخارجية للدولة، الأمر الذي يطرح على البرلمان أعباء جديدة ويتطلب ميكانيزمات وقدرات وكفاءات للتفاعل مع هذه الاختصاصات التي أنيطت بالمؤسسة التشريعية[15].

الفرع الثالث: سلطات أعضاء الحكومة (الجهاز التنفيذي)

       يمكن للسلطات الحكومية أن تتدخل في بعض الأحيان لتساهم في تكوين الإرادة الدولية للمغرب، وذلك في المجالات التي تسمح بالتفويض في السلطات كإجراء المفاوضات باسم المغرب، والتوقيع على المعاهدات وتمثيل المغرب في المؤتمرات الدولية الحكومية ولقاءات القمة المتعددة الأطراف واجتماعات المنظمات الدولية التي تعقد على مستوى ملوك ورؤساء الدول.

       وفي هذا الاتجاه يمكن من الناحية الدستورية أو بمقتضى القانون الدولي تفويض بعض السلطات الدبلوماسية للوزير الأول أو وزير الخارجية أو لباقي الوزراء، وطبقا لذلك يتولى الوزير الأول في بعض الأحيان الموافقة بمرسوم على الاتفاقات ذات الشكل المبسط التي لا تخضع لشرط التصديق مثل الاتفاقات المتعلقة بقروض ممنوحة من المؤسسات البنكية الدولية أو البنوك الأجنبية بضمان من الدولة المغربية لفائدة المؤسسات المغربية أو تلك المتعلقة بالقروض المبرمة بين حكومة المملكة المغربية والحكومات الأجنبية[16].

       هنا يمكن أن نفتح قوس للملاحظة أن "الاتفاقيات التي يمكن الموافقة عليها من طرف الوزير الأول بعلة كونها اتفاقات مبسطة، مثل الإتفاقات المتعلقة بقروض ممنوحة للمغرب من طرف المؤسسات البنكية الدولية[17]، قد تكون اتفاقيات أو معاهدات التي لا يمكن قبولها أو المصادقة عليها إلا بعد الموافقة بقانون من طرف البرلمان[18]، لكن عدم تعريف المعاهدات الملزمة لمالية الدولة من قبل المشرع المغربي ترك الباب مفتوح للسلطة الحكومية لتقدير المعاهدات الملزمة لمالية الدولة من غيرها. وفي اعتقادنا أن الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بالقروض الممنوحة من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي هي ليست ملزمة لمالية الدولة فقد، وإنما تترتب عليها إشكالات سياسية واجتماعية واقتصادية ناجمة عن الإملاءات التي تمليها هاته المؤسسات مقابل منح تلك القروض، لذلك ينبغي عرض مثل هاته الاتفاقيات وإن كانت ذات شكل مبسط على أنظار ممثلي الشعب للموافقة عليها أو رفضها.

       وبالرجوع إلى سلطات الحكومة في مجال المعاهدات الدولية نجد أنها تساهم مساهمة كبيرة في إبرام المعاهدات الدولية حيث تتكلف بالتفاوض من طرف وزير الخارجية باعتباره منسق العلاقات الخارجية لبلاده، وله دراية كبيرة بمختلف الملفات التي لها علاقة بالسياسة الخارجية، كما أن هذا الإمتياز كرسته اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، كما يمكن لباقي الوزراء كل في القطاع المسند له أن يقوم بإجراء التوقيع بتوكيل من السلطة المختصة.

       وفي جانب آخر يمكن للحكومة ولاسيما في مجال الاتفاقيات التي تتطلب موافقة البرلمان للمصادقة عليها، أن تتوجه لهذا الأخير بمرسوم تطلب فيه إعطاء الإذن بالموافقة لأجل المصادقة إما بالقبول أو الرفض دون الدخول في محتويات المعاهدة لتعديلها، لأن هذا الاختصاص مخول للسلطة التنفيذية[19].

       ومن الاختصاصات التي يمارسها الجهاز الحكومي في مجال المعاهدات نجد أيضا حسب دستور 2011 أن مجلس الحكومة يتداول في المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل عرضها على المجلس الوزاري[20]، كما تتولى الحكومة ضمان تنفيذ القوانين[21]، الذي يصدر الملك الأمر بتنفيذها[22]، ومادام أن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المصادق عليها، تسمو فور نشرها، على التشريعات الوطنية، ويتطلب الأمر ملاءمة التشريعات الوطنية، مع ما تتطلبه تلك المصادقة، فإن تنفيذ الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني الداخلي يعتبر من إختصاص الجهاز التنفيذي الذي يتولى تنفيذ القوانين، أما إصدار قوانين الملاءمة التي تقتضي تعديل بعض المقتضيات المخالفة لأحكام المعاهدات في التشريع الداخلي، أو إصدار تشريعات جديدة تتطلبها عملية الملاءمة كان ذلك من اختصاص السلطة التشريعية، إذن تنزيل المعاهدات الدولية على المستوى الداخلي هو اختصاص مشترك بين مختلف السلطات في البلاد، فملك البلاد يتولى التوقيع والمصادقة والبرلمان يصدر قوانين الملاءمة، والحكومة تتولى التنفيذ المادي للمعاهدة.

المطلب الثاني: سلطات الرقابة على المعاهدات الدولية

       للرقابة على دستورية المعاهدات الدولية أهمية كبرى، فهي تحمي علوية الدستور وقدسيته أمام التشريعات الدولية، إضافة إلى أن هذه الرقابة تشكل حاجزا أمام أي اعتداء على سيادة الدولة ومصالحها الوطنية، علما بأن كثير من الدول انتهكت سيادتها وهددت مصالحها بفعل المعاهدات التي أبرمتها[23].

       في الواقع ليست هناك طريقة مثالية للرقابة على دستورية المعاهدات وإنما هناك اتجاهات متعددة في تنظيم هذا النوع من الرقابة حسب اختلاف أنظمة الحكم وحسب أنواع الدساتير كذلك.

       والمغرب كغيره من الدول اهتم بتنظيم مسألة رقابة المعاهدات، ففي البداية أسند مهمة رقابة بعض المعاهدات إلى السلطة التشريعية، ثم أوكل للمجلس الدستوري مسألة التأكد من عدم مخالفة المعاهدات للمقتضيات التشريعية، وتعلب السلطة القضائية هي الأخرى دورا بارزا في الرقابة على المعاهدات الدولية.

الفرع الأول: سلطة الجهاز التشريعي في الرقابة على المعاهدات الدولية:

       جاء في الفصل 55 من دستور 2011 "الملك يوقع على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الإتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون".

       انطلاقا من هذا النص الدستوري يتبين نطاق المعاهدات الخاضعة لرقابة الجهاز التشريعي، ذلك أن سلطة مصادقة الملك على المعاهدات ليست مطلقة، فالمصادقة على المعاهدات السالفة الذكر لا يمكن أن تتم إلا بعد موافقة البرلمان عليها صراحة.

       ويتضح من النص السابق أن المغرب يتبع الأسلوب البلجيكي الفرنسي القائم على منح الجهاز التشريعي اختصاص في مجال إبرام المعاهدات الدولية قبل التصديق عليها من طرف الملك، وإن اختلف مدى هذا الاختصاص من دستور لآخر، ويلاحظ أن دستور 1996 كان قد حصر نطاق تدخل المجلس التشريعي في مجال إبرام المعاهدات في إطار المعاهدات التي تلزم مالية الدولة، غير أن دستور 2011 عمل على إضافة بعض المعاهدات الأخرى إلى لائحة المعاهدات التي تدخل في اختصاص مراقبة المجلس التشريعي قبل المصادقة عليها، ومع ذلك ظل تدخل البرلمان جد محدود بحيث لا يشمل كل ما تبرمه السلطة التنفيذية وإنما اقتصر على عدد محدود على سبيل الحصر من المعاهدات.

       وإن كانت وظيفة الرقابة تتمثل في التأكد من قبل ممثلي الشعب بأن السياسة المتبعة من قبل السلطة التنفيذية تتفق مع الإرادة العامة للشعب، فيما يخص إبرام المعاهدات الدولية في كون هاته الأخيرة تفرض التزامات مختلفة على الدولة، فهل البرلمان المغربي قادر على رفض منح الإذن للسلطة المؤهلة بالمصادقة؟.

قد يفهم من النص الدستوري لسنة 2011 أنه منح للبرلمان حق مشاركة الملك في السلطة التصديق على بعض المعاهدات الدولية، والحقيقة أن سلطة التصديق على المعاهدات تدخل في نطاق الاختصاص الحصري، ولا يعني بأي حال من الأحوال اشتراط الحصول على موافقة سابقة من البرلمان قبل التصديق على بعض المعاهدات أن البرلمان يشارك الملك في سلطة التصديق، فسلطة البرلمان لا تتعدى منح إذن للملك لممارسة اختصاصه الدستوري، بل إن السلطة المختصة بالمصادقة غير ملزمة بإعطاء أثر للموافقة البرلمانية، فهذه الأخيرة تبقى حرة لاعتبارات مرتبطة بالملاءمة أن تصادق أو لا تصادق على المعاهدة رغم حصولها على الإذن من البرلمان[24]، فهي تحتفظ بسلطتها التقديرية الكاملة، ولكن لا يمكن لهاته الأخيرة التصديق على المعاهدات دون الحصول على إذن سابق من البرلمان متى اشترط الدستور ذلك.

أما فيما يتعلق بمدى قدرة البرلمان على رفض منح الإذن للسلطة المختصة بالمصادقة، فالواضح من خلال التاريخ الدستوري للمغرب أن البرلمان المغربي لم يرفض في مساره التشريعي منح الإذن بالمصادقة، وإن كانت المقتضيات الدستورية تخول له ذلك، وعلى العكس من ذلك، فقد ثبت أن البرلمان أعطى الإذن بالمصادقة على المعاهدات الملزمة لمالية الدولة المغربية في الكثير من الحالات.

الفرع الثاني: سلطة رقابة  المحكمة الدستورية على المعاهدات الدولية

       أسند الدستور المغربي مهمة الرقابة على دستورية المعاهدات لهيئة مستقلة (المجلس الدستوري سابقا) المحكمة الدستورية حاليا، مقتفيا بذلك أثر الدستور الفرنسي لسنة 1958.

       والملاحظ أن الدستور المغربي كغيره من الدساتير تبنى اتجاه معين في الرقابة على المعاهدات حيث تحديد القيمة القانونية للمعاهدة، وكون الرقابة إلزامية أو اختيارية ووقت إثارة الدفع بعدم الدستورية.

       فمن حيث القيمة القانونية للمعاهدة، وعلى خلاف دستور 1996 الذي لم يحدد المكانة التشريعية للمعاهدة، فإن دستور 2011 قد حسم الخلاف المرتبط بهذه المسألة[25]، حيث جاء في تصدير الدستور الجديد التزام واضح بقواعد القانون الدولي المصادق عليها من طرف المملكة المغربية: "فإن المملكة المغربية تؤكد وتلتزم بما يلي:

       "...جعل الاتفاقية الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة".

       أما فيما يخص وقت إثارة الدفع بعدم الدستورية فتبنى الدستور المغربي نظام الرقابة السابقة فقط دون اللاحقة، فقد نص الدستور المغربي على أنه (...تمارس المحكمة الدستورية الاختصاصات المسندة إليها بفصول الدستور، وبأحكام القوانين التنظيمية، وتبث بالإضافة إلى ذلك في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء، وتحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقها لتبث في مطابقتها للدستور؛ ويمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لثبت في مطابقتها للدستور...)[26].

       أما فيما يخص طبيعة الرقابة، فمن الواضح أن المقتضيات المشار إليها سابقا تتطابق مع ما كان منصوص عليه في دستور 1996 بخصوص طبيعة الرقابة على المعاهدات الدولية، فهي لا تعدو أن تكون مجرد رقابة اختيارية جوازية[27]. لكن التطور المهم الحاصل مع دستور 2011 هو أنه أزال اللبس والغموض اللذين ظلا يلاحقان العلاقة بين المعاهدة والدستور، ففي السابق كانت الصيغة التي جاء بها الفصل 31 غامضة ومبهمة وقابلة للتأويل سواء فيما يتعلق بالجهة الموكول لها بتحديد التعارض بين الالتزام الدولي، والدستور أو فيما يتعلق بمسطرة المصادقة، فهو كان ينص على أن المعاهدات التي يمكن أن تخالف الدستور تتم المصادقة عليها بنفس مسطرة تعديل الدستور، إلا أنه مع مجيء الدستور الجديد أصبحت الصورة أكثر وضوحا، فقد أناط بالمحكمة الدستورية اختصاص الحسم في التعارض المفترض بين مخالفة بند في التزام دولي للدستور، فوفق منطوق الفقرة الرابعة من الفصل 55 من دستور 2011، فإن المحكمة أصبحت بمثابة الجهة التي ستختص في تحديد ما إذا كانت اتفاقية أبرمها المغرب تتضمن مقتضى يتعارض مع الدستور، إذن فهي الجهة الموكول لها صراحة توضيح العلاقة بين الدستور وبين القانون الدولي، وإذا صرحت بعدم دستورية مقتضى ما تبعا لإحالة من الملك أو رئيس الحكومة أو رئيس مجلسا النواب أو ربع أعضاء مجلس النواب أو سدس أعضاء مجلس المستشارين، فإن المصادقة لا تتم إلا بعد مراجعة الدستور في اتجاه إدماج هذا المقتضى.

الفرع الثالث :سلطة القضاء العادي في الرقابة على المعاهدات الدولية:

       وإلى جانب رقابة المحكمة الدستورية على دستورية المعاهدات الدولية، والذي يعني خضوع المعاهدة قبل أو بعد تصديقها لرقابة المحكمة الدستورية للتحقق من مدى مطابقتها لأحكام الدستور المطبق، فإن القضاء العادي يلعب هو الآخر دورا في الرقابة على المعاهدات بعد تصديقها، غير أن رقابة القضاء العادي تثير إشكالات وصعوبات تتعلق بتوصيف مكانة الاتفاقيات الدولية في القانون المغربي، الدستور المغربي السابق لم يكن واضحا في رسم مكانة المعاهدة في التشريعات الوطنية، وقد كان من أهم نتائج غموض موقف الدستور المغربي من إشكالية الأولوية هو تضارب الاجتهاد القضائي بين اتجاه يرجع القانون الوطني ويستبعد المعاهدة وآخر مقابل يجعل الاتفاقية الدولية في وضعية أسمى من القانون الوطني؛ حيث عرضت على القضاء المغربي عدة قضايا أثير خلالها موضوع مدى سمو الاتفاقيات الدولية على القانون الوطني، واتخذت المحاكم بشأنها أحكام متباينة ومختلفة بين أحكام رجحت الاتفاقيات الدولية وأخرى رجحت القانون الداخلي.

- قرارات رجحت القانون الوطني:

       قضية سيد كرير: قضى المجلس الأعلى ب  "لكن حيث أن ظهير 20 فبرير 1961 الذي ينظم تحديد الإكراه البدني لازال ساري المفعول ولم يصدر أي قانون، يأمر بإلغائه، والمحكمة ملزمة بتطبيق القانون وليس من اختصاصها تعديل القانون أو إلغاؤه وعليه فإنما قضت به المحكمة المصدرة للقرار المطعون فيه مرتكز على أساس قانوني، وهنا لم يعر المجلس الأعلى اهتماما للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من طرف المملكة المغربية بتاريخ 27 مارس 1979 الذي ينص على أنه: "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي".

-أمر استعجالي صادر عن رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط جاء فيه:"حيث دفع الطالب بعدم قانونية الاعتقال لأن الإكراه البدني إجراء يخالف مقتضيات المادة11 من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية، والسياسية التي تنص على أنه لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي.

قرارات رجحت الاتفاقية الدولية:

       قضية ميلان وكازال: في هذه القضية القضاء تبنى مبدأ ترجيح أحكام المعاهدة على التشريع الداخلي استنادا على أحكام اتفاقية فرنسية مغربية، وهذا هو الأمر المستفاد من الحكمين المشهورين الصادرين في هذا المجال عن محكمة الاستئناف بالرباط سنة 1969، حيث قررت المحكمة إلغاء القرار الصادر عن مجلس هيئة المحامين الرامي إلى رفض طلب تسجيل محاميين فرنسيين ضمن جدول هيئة المحامين بحجة أنهما لا يتكلمان اللغة العربية التي تعتبر لغة القضاء المغربي رسميا استنادا إلى الظهير الصادر في 26 يناير 1965 المتعلق بالتوحيد والمغربة والتعريب. وقد أسست المحكمة حكمها على الاتفاقية القضائية المغربية الفرنسية  لعام 1957 والبرتوكول الإضافي الملحق بها لسنة 1965.[28]

قضية الركراكي عيادة ضد عامل صاحب الجلالة على إقليم الحاجب:

       حكمت المحكمة في هذه القضية بإلغاء القرار الضمني الصادر عن عامل صاحب الجلالة على إقليم الحاجب والقاضي برفض منع جواز السفر للطاعنة، وأحقيتها في الحصول على هذا الجواز "وحيث إن الفصل التاسع من الدستور ينص على حرية التجول وأنه لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحرية إلا بمقتضى القانون" كان من الواجب أيضا في هذه النازلة الاعتماد كذلك على الفصل 12 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

       الملاحظ أن موقف القضاء في ظل دستور 1996 ظل متأرجحا ما بين الدفع في اتجاه الأخذ بسمو الاتفاقية الدولية على القانون الوطني من جهة، واستبعاد الاتفاقية الدولية والأخذ بالقانون الوطني من جهة أخرى، ويبرز ذلك جليا من خلال القضايا المتعلقة بتطبيق مسطرة الإكراه البدني فهناك مواقف متعددة  ومتعارضة للقاضي المغربي إزاء الفصل 11 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[29] فمرة يبعد الاتفاقية الدولية على اعتبار أن مصادقة المغرب عليها لا ينقص في شيء من التشريع الداخلي، ومرة يأخذ بالاتفاقية على حساب التشريع الوطني بدعوى أنها أضحت جزء من التشريع الوطني. وفي اعتقادنا أن هذا التدبدب والتأرجح في مواقف القضاء المغربي تعود بالأساس إلى الغموض الذي اكتنف دستور 1996، حيث لم يرد أي فصل من فصوله بشكل واضح لتنظيم العلاقة بين الاتفاقية الدولية والتشريع المغربي، لذلك كان المغرب مطالب بتحديد موقفه بشكل واضح من الاتفاقية، وهو ما تم في دستور 2011 حيث ورد صراحة في تصديره، الذي يشكل جزء منه، على "جعل الاتفاقية الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نظام أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه هذه المصادقة".

       ولاشك أن هذا التنصيص الواضح على مكانة الاتفاقية الدولية بالنسبة للقانون الوطني سيجعل القاضي المغربي متحللا على الأقل من الغموض وعدم وضوح الرؤيا عندما تثار أمامه قضية ما تكون لها علاقة بالاتفاقيات الدولية، وستجعل مراقبته على الاتفاقية الدولية مراقبة لها فعالية ودور في حماية المصالح العليا للبلاد.

خاتمة:

تبين أن إشكالية توزيع السلط بالمغرب في مجال إبرام المعاهدات تحضى بأهمية بالغة لذلك تصدى لها المشرع المغربي فقد عمل أولا على تحديد الفاعلين المتدخلين في صنع القرار الخارجي للدولة المغربية، وكذا تحديد نطاق تدخل كل سلطة من السلطات الموكول لها إبرام المعاهدات الدولية.

       وعمل الدستور المغربي على توزيع الاختصاصات في مسألة سلطات إبرام المعاهدات الدولية، فمنها من أسندها للسلطة التشريعية، ومنها من تركها للسلطة التنفيذية، غير أن أهم السلط في هذا المجال تركت بيد الملك باعتباره الفاعل الرئيسي والأساسي في مجال العلاقات الدولية للمغرب.



[1]- علي صادق أبو الهيف، القانون الدولي العام، منشأة المعارف، بدون تاريخ الطبع، ص: 156.

[2]- Selon l’article 2 de la convention de Vienne sur la droit des traités : L’expression « Traité » s’entend d’un accord international conclu par écrit entre Etats et régi par le droit international, qu’il soit consigné dans un instrument unique ou dans deux ou plusieurs instruments connexes, et quelque soit sa dénomination particulière.

[3]-علي يوسف الشكري، الرقابة على دستورية المعاهدات الدولية دراسة مقارنة في الدساتير العربية، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد السابع-2008- ص 14-15.

[4]- عبد القادر القادري، القانون الدولي العام، مكتبة المعارف، الرباط 1984، ص:31.

[5]- تتم هذه المرحلة بالنسبة للمعاهدات الثنائية عن طريق اجتماعات خاصة بين ممثلي الدول صاحبة الشأن، بينما تكون بالنسبة للمعاهدات الجماعية عن طريق مؤتمر تدعى إليه الدول المرغوب اشتراكها، أنظر علي صادق أبو الهيف، مرجع سابق، ص:459.

[6]- المادة 11 من اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.

[7]- المادة 12 من اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.

[8]-المادة 13 من اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.

[9]-المادة 14 من اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.

[10]-المادة 15 من اتفاقية ﭭيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969.

[11]- توزيع الإختصاص بالتصديق بين السلطة التشريعية والتنفيذية معا هو الإتجاه الغالب لدى معظم الدول في الوقت الحالي... أنظر ريم بطمة، "المعاهدات الدولية والقانون الوطني: دراسة مقارنة للعلاقة ما بين المعاهدات الدولية والقانون الوطني وآليات توطينها"، المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء، 2014، ص 28-29.

[12]- أحمد مفيد، الإختصاصات التشريعية للبرلمان وسؤال الفعالية في دستور 2011 إضاءات متقاطعة على الدستورانية المغربية الجديدة، مطبعة المعارف الجديدة، 2014، ص 49.

[13]- محمد المكليف، مستجدات المعاهدات الدولية في دستور 2011 وإشكالات التطبيق، مجلة الحقوق، سلسة الأعداد الخاصة، العدد 5، 2012، ص :117.

[14]- Mohammed Amine Ben Abdallah, les traitées en droit marocain ; REMALD, N°94, Septembre- Octobre 2010- p 3-17.

[15]- الحسن بوقنطار، الدستور الجديد والسياسة الخارجية المغربية، في دستور 2011، إضاءات متقاطعة على الدستورانية المغربية الجديدة، المعارف الجديدة، 2014، ص 27-30.

[16]-عبد الواحد الناصر، التطبيقات المغربية لقانون العلاقات الدولية، مطبعة النجاح الجديدة، 2004، ص 40.

[17]- مثلا القروض الممنوحة من الوكالة الدولية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي.

[18]- تتم هذه الموافقة بناء على مشروع قانون يقدم إليه بهذا الخصوص.

[19]محمد المكليف، مرجع سابق، ص 178.

[20]-الفصل 92 من دستور 2011.

[21]-الفصل 89 من دستور 2011.

[22]-الفصل 50 من دستور 2011.

[23]- علي يوسف الشكري، مرجع سابق، ص: 13.

[24]- الحسان بوقنطار، مرجع سابق، ص 29.

[25]- عادلة الوردي، مكانة الإتفاقيات الدولية في الدستور المغربي، مجلة الحقوق، سلسلة الأعداد الخاصة، العدد 5، 2012، ص 186.

[26]- الفصل 132 من الدستور المغربي لسنة 2011.

[27]- علي يوسف ألشكري، رجع سابق، ص، 32.

[28]-عبد الإله، فونتير، العمل التشريعي بالمغرب أصوله التاريخية ومرجعياته الدستورية دراسة تأصيلية وتطبيقية، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، 2002، ص: 292.

[29]- عثمان كوزة، إشكالية الملاءمة بين التشريع المغربي والمعاهدات الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا  المعمقة في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا، 2008-2009. ص: 100.

إرسال تعليق

0 تعليقات