آخر الأخبار

Advertisement

جريمة تبييض الأموال في التشريع الجزائري: مفهومها وأركانها - ذ. سعيود محمد الطاهر - مجلة الباحث


 ذ. سعيود محمد الطاهر

باحث  قانوني تخصص قانون الضبط الاقتصادي

جامعة الإخوة منتوري- قسنطينة (الجزائر)

جريمة تبييض الأموال في التشريع الجزائري: مفهومها وأركانها

مقدمة:

أدى تنامي ظاهرة العولمة وما رافقها من ثورة تكنولوجية في مجال الاتصالات والمعلومات إلى بروز نوع جديد من الجرائم لم يكن معروفا من قبل، ساهم في انتشاره سهولة انتقال رؤوس الأموال عبر الدول، بما فيها أموال المنظمات الإجرامية وهو ما يعبر عنه بتبييض الأموال الذي يشكل أخطر جرائم عصر الاقتصاد الرقمي، بل إنه التحدي الحقيقي لمدى قدرة القواعد القانونية على تحقيق فعالية مواجهة الأنشطة الإجرامية التي ترتبط بأنشطة غير مشروعة وعمليات مشبوهة تتحقق منها عوائد طائلة تؤثر على الاقتصاد الوطني والدولي.

        إن التدخل التشريعي لتجريم وعقاب تبييض الأموال واعتباره جريمة خاصة قائمة بذاتها يعود في الواقع لعدة عوامل أهمها تلك المتعلقة بطبيعة ظاهرة تبييض الأموال باعتبارها ظاهرة اقتصادية مصرفية في المقام الأول، وعلى هذا الأساس وجب مواجهتها بنصوص خاصة تترجم وتستوعب فروضها المختلفة بالإضافة إلى العوامل المتعلقة بقصور الأوصاف الجنائية التقليدية لنشاط تبييض الأموال من الناحية العملية وعدم كفاية التشريعات الجنائية العادية السارية المفعول لمكافحة تبييض الأموال.

          وبناء على مصادقة الجزائر على مختلف الاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة بتجريم ومكافحة عمليات تبييض الأموال[1]، عمد المشرع الجزائري إلى تجريم تبييض متحصلات الجرائم بموجب القانون 04/15 المؤرخ في 10 نوفمبر 2004، المعدل والمتمم للأمر 66/156 المؤرخ في 08 يونيو 1966 المتضمن قانون العقوبات، ثم أصدر القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما[2]، والذي تضمن العديد من التدابير والإجراءات الوقائية والردعية.

        ومن منطلق وصف جريمة تبييض الأموال بأنها عملية معقدة ومتعددة الأشكال والوسائل، لكونها تتم عبر قنوات عديدة وبأساليب شتى لا يمكن حصرها، تبرز الأهمية البالغة لمعرفة موقف المشرع الجزائري من هذه الجريمة.

        وعليه، وقصد الإلمام بكافة جوانب الموضوع، فإنه يجب التركيز على نقطتين أساسيتين؛ تتعلق الأولى في التعرف على جريمة تبييض الأموال (المطلب الأول). أما الثانية، فتتركز على دراسة أركان جريمة تبييض الأموال (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعريف جريمة تبييض الأموال

تبييض الأموال مصطلح جرى تداوله على نطاق واسع في كافة المحافل الدولية والإقليمية والمحلية المهتمة بالجرائم المالية والأمن الاجتماعي والاقتصادي، على أساس أن عمليات تبييض الأموال ترتبط إلى حد كبير بأنشطة غير مشروعة عادة ما تكون بعيدة عن يد القانون المناهضة للفساد المالي[3].

         إن اعتبار مصطلح تبييض الأموال من المصطلحات الحديثة نسبيا، أدى إلى اختلاف الآراء بشأن تحديد المقصود به، ولم يقتصر هذا الخلاف بين الفقهاء فقط، بل امتد ليشمل التشريعات سواء الوطنية أو الدولية وهو ما انعكس على الصياغة النهائية لهذه النصوص.

الفرع الأول: تعريف جريمة تبييض الأموال في الاتفاقيات الدولية والإقليمية

لقد حظي موضوع جريمة تبييض الأموال باهتمام كبير سواء من جانب الدول والحكومات أو من جانب الفقهاء، إلا أن ذلك لم يمنع من تعدد وجهات النظر بخصوص تعريف جريمة تبييض الأموال، ويرجع الأمر في ذلك إلى اختلاف المنظور الذي يرى منه كل جانب هذه الجريمة.

من أبرز الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي تناولت جريمة تبييض الأموال وأعطت لها تعريفا خاصا نذكر:

 

أولا: اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية

 جرمت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، الأعمال أو الأنشطة التي من شأنها تحويل الأموال أو نقلها مع العلم بأنها مستمدة من أية جريمة من جرائم المخدرات، أو من فعل من أفعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة أو الجرائم بهدف إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال قصد مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب هذه الجريمة على الإفلات من العواقب القانونية لأفعاله.

إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها، مع العلم بأنها مستمدة من جريمة أو جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية (أ) من المادة الثالثة، أو مستمدة من فعل من أفعال الاشتراك في هذه الجريمة أو الجرائم[4].

وعليه يمكننا القول أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1988، عرفت جريمة تبييض الأموال من خلال تجريم جميع التحويلات المتعلقة بالأموال ذات المصدر غير المشروع الناتجة عن تجارة المخدرات والمؤثرات العقلية ويرجع ذلك إلى اعتبار هذه الأخيرة الأكبر حجما والأكثر اتساعا، فالمخدرات ليس لها وطن معين فهي تجول في كافة أرجاء العالم عن طريق ما اصطلح عليه في الفقه بالمهربين.

ثانيا: اتفاقية ستراسبورغ لسنة 1990

 عرفت اتفاقية ستراسبورغ جريمة تبييض الأموال بأنها: "عملية تحويل الأموال المتحصل عليها من أنشطة إجرامية بهدف إخفاء أو إنكار المصدر غير الشرعي والمحظور لهذه الأموال أو مساعدة أي شخص ارتكب جرما ليتجنب المسؤولية القانونية عن الاحتفاظ بمتحصلات هذا الجرم"[5].

        يعد تعريف اللجنة الأوروبية في نظرنا أكثر التعريفات شمولا وتحديدا للعناصر المكونة لجريمة تبييض الأموال، لكونه لم يقصر تعريفه للجريمة على الأنشطة الهادفة إلى إخفاء المصدر غير المشروع للأموال ومحاولة إضفاء الصفة الشرعية عليها، بل يتعداه ليشمل تجريم واعتبار أي شخص ارتكب جرما ليتجنب المسؤولية القانونية عن الاحتفاظ بالمتحصلات غير المشروعة وتجريم من يساعده على ذلك.

ثالثا: إعلان لجنة بازل للرقابة المصرفية

عرف إعلان المبادئ الخاص لمنع استعمال القطاع المصرفي في تبييض الأموال الموضوع من طرف لجنة بازل في ديسمبر 1988 جريمة تبييض الأموال في مقدمته بأنها: "جميع العمليات المصرفية التي تهدف إلى إخفاء المصدر الإجرامي للأموال"[6].

        ويلاحظ أن هذا التعريف بالرغم من توسعه في تعريف تبييض الأموال ليشمل جميع الجرائم التي ينتج عنها أموال غير مشروعة، إلا أنه حصر أساليب ارتكاب جريمة تبييض الأموال في العمليات المصرفية، وهو ما ينفيه الواقع خاصة مع التطورات التكنولوجية التي استفاد منها مرتكبو جريمة تبييض الأموال للإفلات من الرقابة المصرفية.

رابعا: اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية

 عرفت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية جريمة تبييض الأموال بأنها: "تحويل الممتلكات أو نقلها، مع العلم بأنها عائدات جرائم، بغرض إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الممتلكات أو مساعدة أي شخص ضالع في ارتكاب الجرم الأصلي الذي أتت منه على الإفلات من العواقب القانونية لفعلته.

 إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها أو حركتها أو ملكيتها أو الحقوق المتعلقة بها، مع العلم بأنها عائدات جرائم.

 اكتساب الممتلكات، أو حيازتها، أو استخدامها مع العلم وقت تلقيها بأنها عائدات جرائم.

 المشاركة في ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة، أو التواطؤ، أو التآمر على ارتكابها ومحاولة ارتكابها والمساعدة والتحريض على ذلك، وتسهيله وإسداء المشورة بشأنه"[7].

        من خلال هذا التعريف، يتضح لنا أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية قد وسعت من الجريمة الأولية المتأتية منها الأموال المراد تبييضها، بحيث لم تقتصر على جرائم المخدرات كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية السابقة الذكر.

الفرع الثاني: تعريف جريمة تبييض الأموال في التشريعات الداخلية

من أبرز التشريعات التي تبنت تجريم عمليات تبييض الأموال وحاولت إعطائها تعريف يتماشى والهدف المتوخى من التجريم نذكر ما يلي:

أولا: التشريع الجزائري

 عمل المشرع الجزائري على استحداث نص قانوني خاص لتجريم عمليات تبييض الأموال من خلال إصدار القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، المعدل والمتمم بالأمر 12/02، الذي عرف جريمة تبييض الأموال بقوله: "يعتبر تبييضا للأموال:

تحويل الأموال أو نقلها مع علم الفاعل بأنها عائدات مباشرة أو غير مباشرة من جريمة، بغرض إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الأموال أو مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية التي تحصلت منها هذه الأموال، على الإفلات من الآثار القانونية لأفعاله.

إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها، مع علم الفاعل أنها عائدات إجرامية.

اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها مع علم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها أنها تشكل عائدات إجرامية.

المشاركة في ارتكاب أي من الجرائم المقررة وفقا لهذه المادة أو التواطؤ أو التآمر على ارتكابها، أو محاولة ارتكابها والمساعدة أو التحريض على ذلك وتسهيله وإسداء المشورة بشأنه"[8].

ونرى بأن المشرع الجزائري لم يأت بتعريف محدد لجريمة تبييض الأموال، إنما اكتفى بتحديد الأفعال التي تشكل جريمة تبييض الأموال، فاعتبر كل العائدات الإجرامية الناتجة عن جناية أو جنحة والتي يكون الغرض منها إخفاء أو تمويه ذلك المصدر غير المشروع جريمة تبييض للأموال، بشرط توافر عنصر العلم بالمصدر غير المشروع للأموال.

 وفي تقديرنا الخاص، يمكن تبرير ذلك بمسايرة المشرع الجزائري نصوصا دولية في هذا الشأن لاسيما اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، وكذلك رغبة المشرع في ترك مهمة تعريف جريمة تبييض الأموال للفقه.

 بالإضافة إلى ذلك، فقد تبني المشرع الجزائري المفهوم الواسع لجريمة تبييض الأموال من خلال عدم حصر العائدات في الاتجار بالمخدرات، لتشمل أي نوع من الممتلكات والأموال المادية أو غير المادية، لاسيما المنقولة وغير المنقولة التي يحصل عليها بأية وسيلة كانت مباشرة أو غير مباشرة، وسواء كان الفعل تاما أو مجرد الشروع كما جرم المساعدة والاشتراك في الفعل الأصلي.

ثانيا: التشريع المصري

 عرف المشرع المصري جريمة تبييض الأموال بموجب المادة الأولى من القانون رقم 80 لسنة 2002 المتضمن أحكام قانون مكافحة غسل الأموال بأنها: "كل سلوك ينطوي على اكتساب أموال، أو حيازتها أو التصرف فيها أو إدارتها أو حفظها أو استبدالها أو إيداعها أو ضمانها أو استثمارها أو نقلها أو تحويلها أو التلاعب في قيمتها، إذا كانت محصلة من جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون، مع العلم بذلك متى كان القصد من هذا السلوك إخفاء المال أو تمويه طبيعته أو مصدره أو مكانه أو صاحب الحق فيه أو تغيير حقيقته أو الحيلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل منها المال"[9].

        ونرى بأن المشرع المصري ضيق من نطاق الجرائم الأصلية التي تكون محلا لجريمة تبييض الأموال، حيث حصرها في الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية من قانون مكافحة تبييض الأموال المعدل بالقانون رقم 181 لسنة 2008، وبذلك يكون قد تبنى التعريف الضيق لجريمة تبييض الأموال.

 

ثالثا: التشريع الفرنسي

 يعتبر القانون 87/1157 المؤرخ في 31 ديسمبر 1987 المتعلق بتجريم تبييض الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات أول تشريع يجرم تبييض الأموال الناتجة عن تجارة المخدرات في فرنسا.

        ثم صدر القانون 90/614 المؤرخ في 12 يونيو 1990 المتعلق بمساهمة المؤسسات المالية في مكافحة تبييض الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات، الذي أوجبت المادة الثانية منه على كل شخص بحكم مهنته أو وظيفته عندما يقوم بعملية رقابة أو يقدم استشارة تتعلق بحركة رؤوس الأموال أن يخطر وكيل الجمهورية بالعمليات التي تكون فيها الأموال متأتية من تجارة المخدرات أو الجرائم التي لها علاقة بها، دون أن يعرف جريمة تبييض الأموال.

        وفي 13 مايو 1996 أصدر المشرع الفرنسي القانون 96/392 المعدل لقانون العقوبات الذي عرف جريمة تبييض الأموال في المادة 324 بأنها: "تسهيل التبرير الكاذب بأي طريقة كانت لمصدر الأموال أو الدخول لمرتكب جناية أو جنحة حققت له ربحا مباشر أو غير مباشر.

 كما يعتبر من قبيل تبييض الأموال المساهمة في عمليات توظيف أو إخفاء أو تحويل المال المتحصل عليه بشكل مباشر أو غير مباشر من جناية أو جنحة"[10].

        وبذلك يكون المشرع الفرنسي قد تبنى المنظور الواسع في تحديد نطاق الجرائم التي تكون عوائدها محلا لجريمة تبييض، لتشمل كافة العوائد الناتجة عن الجرائم دون حصرها في الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات كما هو الحال في القانون 90/614 المتعلق بمساهمة المؤسسات المالية في مكافحة تبييض الأموال الناتجة عن الاتجار بالمخدرات.

المطلب الثاني: أركان جريمة تبييض الأموال

          اختلف الفقه حول تحديد الأركان العامة للجريمة، فقد ذهب إلى القول بأن للجريمة ركنين اثنين هما الركن المادي والركن المعنوي[11]. وذهب البعض الآخر إلى حصر أركان الجريمة في ثلاثة أركان هي الركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي[12]. وذهب البعض الآخر إلى إدراج ركن رابع هو الركن المفترض[13]

وعلى ضوء ما سبقت الإشارة إليه، سنتطرق في هذا المطلب لأركان جريمة تبييض الأموال من خلال تبيان الشرط المفترض (الفرع الأول)، ثم نبين الركن المادي لهذه الجريمة (الفرع الثاني)، وصولا للركن المعنوي (الفرع الثالث).

 

الفرع الأول: الشرط المفترض لجريمة تبييض الأموال

          الشرط أو العنصر المفترض هو مركز قانوني أو واقعي يسبق في وجوده قيام الجريمة ولا بد من التحقق من هذا الوجود قبل الخوض في مدى توافر أركان الجريمة الأخرى[14]، أي أنه العنصر الذي يكون له حياته السابقة والمستقلة عن حياة الجريمة نفسها، ويفترض وجوده قبل أن يباشر الجاني لنشاطه الإجرامي أو لحظة مباشرته له، وبالتالي فإنه يترتب على عدم وجوده ألا يوصف هذا النشاط بعدم المشروعية.

        وإذا كانت جريمة تبييض الأموال تعتبر من الجرائم التبعية وهو ما يقتضي القول أن لهذه الجريمة ركن مفترض يتمثل في وقوع جريمة أصلية سابقة عليها ينتج عنها المال القذر المراد تبييضه لإضفاء الصفة الشرعية عليه[15].

أولا: بيان الشرط المفترض لجريمة تبييض الأموال

        اختلفت التشريعات التي تناولت جريمة تبييض الأموال حول ضابط أو معيار تستند إليه في تحديد نطاق الجريمة الأولية التي تتحصل الأموال غير المشروعة، وهو ما أدى إلى ظهور ثلاث اتجاهات في ذلك:

الاتجاه الأول: يقصر الجريمة الأولية على جرائم الاتجار غير المشروع بالمخدرات، وهو ما أخذت به اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات لسنة 1988.

الاتجاه الثاني: يقوم على تجريم وعقاب تبييض الأموال المحصلة من الجريمة بوجه عام بحيث لا يتم مسبقا وضع تحديد للجرائم الأولية، ومن التشريعات التي أخذت به التشريع المصري والفرنسي.

الاتجاه الثالث: يقوم على الأخذ بنوع معين من الجرائم دون تحديد لما تشتمل عليه كتحديد الجنايات بشكل عام، ومن التشريعات التي أخذت بهذا الاتجاه التشريع الألماني.

          أما في التشريع الجزائري، وعلى الرغم من مصادقة الجزائر على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات، والتي حددت الجرائم الأولية ذات العائد الإجرامي الذي يكون محلا لجريمة تبييض الأموال في جريمة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، إلا أن أحكام القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما وقبله المادة 389 مكرر من قانون العقوبات جاءت خالية من تحديد الجريمة الأولية المتأتية منها الأموال غير المشروعة هل هي جريمة ذات وصف عام أو وصف خاص.

ثانيا: العلاقة بين جريمة تبييض الأموال والجريمة الأولية

          تظهر العلاقة بين جريمة تبييض الأموال والجريمة الأولية في أن هذه الأخيرة تعتبر العنصر المفترض لجريمة تبييض الأموال، وكذلك في علاقة السببية بأن الأموال غير المشروعة المحصلة من الجريمة الأولية هي محل جريمة تبييض الأموال ويكون هناك استقلال في باقي العناصر الأخرى، وإزاء هذا الاستقلال للجريمة الأولية فإنه لا بد ولقيام الجريمة الثانية (جريمة تبييض الأموال) من توافر الجريمة الأولية بجميع أركانها التي نص عليها القانون، وهذا يتطلب إثبات وجودها كما هو محدد في النص القانوني.

        ولهذا فإن الحكم الصادر بعدم المسؤولية في الجريمة الأولية سواء بسبب انتفاء أحد أركان الجريمة، أو لعدم وجود نص تجريمي، أو لوجود مانع من موانع المسؤولية الجنائية هذه الأسباب تؤدي إلى عدم توافر جريمة تبييض الأموال.

        أما في حالة صدور الحكم بالبراءة لعدم كفاية الأدلة، فإن هذا الحكم لا يمنع من قيام جريمة تبييض الأموال لأن الجريمة الأولية من الممكن أن يكون ارتكبها شخص آخر[16].

وفي حالة صدور الحكم بالإدانة في الجريمة الأولية على اعتبار أن المشرع الجزائري لم يحدد الجريمة الأولية، إنما أراد بذلك جعل جريمة تبييض الأموال جريمة مستقلة بذاتها، لذلك لا يشترط لتوافر جريمة تبييض الأموال صدور حكم بالإدانة في الجريمة الأولية، وإنما يكفي وجود الأدلة على أن الأموال التي تم تبييضها ناتجة عن جريمة بصفة عامة[17].

الفرع الثاني: الركن المادي لجريمة تبييض الأموال

          من المعلوم أن الركن المادي عامة، وحسب الاتجاه السائد في الفقه يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية، وهي السلوك الإجرامي والنتيجة والعلاقة السببية التي تربط السلوك الإجرامي بالنتيجة[18]، وجريمة تبييض الأموال شأنها في ذلك شأن كل الجرائم، يقوم ركنها المادي على توافر هذه العناصر، فهي تتطلب من حيث الأصل وقوع فعل إجرامي معين وتحقق نتيجة إجرامية معينة وعلاقة سببية بين الفعل والنتيجة[19].

أولا: السلوك الإجرامي في جريمة تبييض الأموال

السلوك المجرم قانونا، هو كل سلوك خارجي واع وموجه يأتيه الإنسان بغرض إحداث تغيير في العالم الخارجي، فيظهر مكونا ماديات الجريمة التي نص القانون على تجريمها ويقرر لها العقاب المناسب.

        ويعتبر السلوك الإجرامي من أهم العناصر المكونة للركن المادي لجريمة تبييض الأموال، لأنه يبين نشاط مبيض الأموال في التعامل بأموال غير مشروعة، كما يدل على الغاية المؤدية لنتيجة إجرامية معاقب عليها قانونا[20].

          ونظرا لهذه الأهمية، سوف نتعرض لصور السلوك الإجرامي في جريمة تبييض الأموال بشكل عام، ثم نتطرق لصور هذا السلوك الإجرامي في التشريع الجزائري.

1- صور السلوك الإجرامي في جريمة تبييض الأموال: يتحقق السلوك الإجرامي في جريمة تبييض الأموال بإحدى الصورتين: الأولى بالتصرف الإيجابي، والأخرى بالتصرف السلبي ومعنى ذلك أن الجريمة تتحقق في التصرف الإيجابي نتيجة لامتزاج إرادة الإنسان بحركاته العضوية منتجة بذلك عملا يحضره القانون، أي وقوع سلوك بشري بصورة إرادية وأن تترك هذه الإرادة الحرة مظهرا لها في العالم الخارجي الذي تتمكن الحواس من إدراكه[21].

          فجريمة تبييض الأموال شأنها شأن معظم الجرائم تتحقق بكل نشاط مادي يأتيه الجاني سواء اتخذ هذا النشاط صورة إيجابية عن طريق إتيان فعل ينهى عنه القانون، أو عن طريق الامتناع عن القيام بفعل أمر به القانون.

2- صور السلوك الإجرامي لجريمة تبييض الأموال في التشريع الجزائري: يتمثل السلوك المكون لجوهر الركن المادي في جريمة تبييض الأموال في كل فعل يستهدف إضفاء صفة مظهر مشروع على الأموال والعائدات المحصلة من الجريمة، وهو ما عنيت الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بتجريمه وعقابه وسايرتها في ذلك تشريعات الدول مع بعض الاختلاف اللغوي في التعبير والتباين الموضوعي في النطاق.

وتبرز أهم مظاهر السلوك المكون للركن المادي لجريمة تبييض الأموال في مختلف الوسائل التي يتيحها النشاط المصرفي، ولو كانت في ذاتها مشروعة، أو حيل التمويه المصرفي الأخرى غير المشروعة، وبصفة عامة باستخدام أي وسيلة كانت حيث يصعب حصر الطرق التي يتم بها تبييض الأموال[22].

          وقد أورد المشرع الجزائري مجموعة من صور السلوك الإجرامي في جريمة تبييض الأموال في قانون العقوبات، وكذا في القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، المعدل والمتمم بالقانون 12/02 المؤرخ في 13 فيفري 2012.

          فقد نصت المادة 02 من القانون 05/01 السالف الذكر على أن جريمة تبييض الأموال تأخذ أربع صور هي:

- تحويل الأموال أو نقلها.

- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال.

- اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها مع العلم بأنها عائدات إجرامية.

- المشاركة في ارتكاب الأفعال السالفة الذكر.

ثانيا: النتيجة الإجرامية

 تتمثل النتيجة الإجرامية في الأثر الذي يحدثه السلوك الإجرامي سواء كان أثرا إيجابيا أو سلبيا، وهي تتضمن في مدلول قانون العقوبات مفهومين، واحد مادي وآخر قانوني، فالأول هو الأثر المادي الذي ترتبه الجريمة ويتحقق في العالم الخارجي ويعتد به القانون، فيغير فيه عما كان قبل ارتكاب الجريمة، أما المفهوم القانوني فهو مجرد فكرة قانونية، ليس لها وجود مادي ملموس، تتمثل في صورة ضرر معنوي، بالاعتداء على حق أو مصلحة محمية قانونا[23].

          المشرع الجزائري، ومن خلال نصوص التجريم الخاصة تبييض الأموال، نجده قد جمع بين جرائم الضرر وجرائم الخطر، حيث يتطلب لتوقيع الجزاء عن جريمة تبييض الأموال أن يؤدي السلوك الإجرامي إلى إحداث نتيجة مادية محددة، تتمثل في إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال[24]، في حين اعتبر مجرد المشاركة في ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية الفقرة (أ)، (ب) و(ج) من القانون 05/01 أو محاولة ارتكابها أو التواطؤ أو إسداء المشورة بشأنها جريمة من جرائم تبييض الأموال حتى ولو لم تتحقق النتيجة المادية من السلوك والمتمثلة في إخفاء، أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الأموال[25].

          ونرى في منظورنا الخاص، أن المشرع الجزائري قد وفق في تجريم تبييض الأموال من خلال جمعه بين حاتي تحقق النتيجة الإجرامية أو عدم تحققها، لأن هذا الجمع يعكس مدى خطورة هذه الجريمة والآثار السلبية التي تترتب عليها فيما لو تمت بشكل كامل، كما من شأن هذا الأمر أن يسهل مجال إثبات المسؤولية الجنائية عن جرائم تبييض الأموال، والتي تتميز أحيانا بصعوبة إثبات الضرر.

ثالثا: العلاقة السببية

لكي يسأل الجاني عن النتيجة التي يعتد بها القانون لقيام الركن المادي للجريمة، لا بد أن يكون فعل الجاني قد تسبب في إحداثها، بمعنى أن تكون النتيجة مرتبطة بفعله وناتجة عنه[26]، وعلى ذلك فإن علاقة السببية هي الرابطة أو العلاقة بين السلوك الإجرامي والنتيجة، بحيث يكون السلوك هو سبب حصول النتيجة، فإذا انتفت هذه العلاقة بأن وقعت النتيجة بسبب سلوك آخر، انتفت العلاقة السببية بينهما، وبالتالي عدم اكتمال الركن المادي وعدم قيام الجريمة من الناحية القانونية[27].

          فعلاقة السببية، هي التي تربط بين الفعل أو السلوك بالنتيجة التي يعتبرها القانون جريمة معاقب عليها، أما إذا وقعت النتيجة مستقلة عن السلوك وأمكن فصلها عنه، فلا يعود بالإمكان إسناد هذه النتيجة إلى مرتكب السلوك[28].

          وفي مجال تبييض الأموال فإن علاقة السببية تتوافر بارتباط السلوك الإجرامي الذي انصب على مال غير مشروع متحصل من جريمة من الجرائم التي نص عليها القانون، والذي ينسب إلى الجاني، بالنتيجة الإجرامية والتي تتمثل في إخفاء أو تمويه طبيعة المصدر غير المشروع للمال وتغيير طبيعته أو حقيقته والحيلولة دون اكتشافه بأي صورة كانت من خلال إضفاء الصفة الشرعية على الأموال غير المشروعة[29].

الفرع الثالث: الركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال

          لا يكفي لقيام الجريمة ارتكاب الجاني لسلوك معين سواء كان فعلا أو امتناع، وإنما يجب فضلا عن هذا السلوك توافر الركن المعنوي[30] الذي يعرف على أنه الصلة النفسية التي تربط النشاط الإجرامي ونتائجه من جهة وبين الفاعل الذي صدر منه هذا النشاط، بحيث يمكن القول أن السلوك هو بسبب إرادة الفاعل[31].

          فالركن المعنوي للجريمة هو علاقة تربط بين ماديات الجريمة وشخصية الجاني، تتمثل في سيطرة الجاني على الفعل وآثاره، وجوهر هذه العلاقة هي الإرادة.

أولا: طبيعة الركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال

          يتحقق الركن المعنوي في جريمة تبييض الأموال بتوافر القصد الجنائي لدى الجاني الذي يعتبر أخطر صورة للركن المعنوي لأنه ينطوي على معنى العدوان المتعمد على الحقوق والقيم[32].

          بالرجوع إلى المادة 02 من القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما المعدل والمتمم بالأمر 12/02، يتبين أن المشرع الجزائري قد اعتبر جريمة تبييض الأموال جريمة عمدية، إذ يشترط لقيامها أن يتوافر القصد الجنائي بما يحمله من علم مرتكب السلوك بأن الأموال محل الفعل المادي لتبييض الأموال عائدات إجرامية، واتجاه إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة، حيث تعتبر المادة السابقة الذكر أن جريمة تبييض الأموال "تحويل الأموال أو نقلها، مع علم الفاعل أنها عائدات مباشرة أو غير مباشرة من جريمة ..."، "إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها، مع علم الفاعل أنها عائدات إجرامية"، "اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها مع علم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها أنها تشكل عائدات إجرامية".

          كما يتطلب المشرع الجزائري إضافة إلى القصد الجنائي العام[33]، ضرورة توافر القصد الجنائي الخاص حتى تتحقق الصورة الأولى من صور جريمة تبييض الأموال، ويبدو ذلك من خلال نصه في الفقرة (أ) على توافر الغرض من ارتكاب فعل التحويل أو النقل للأموال ألا وهو إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الأموال، أو مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية التي تحصلت منها هذه الأموال، على الإفلات من الآثار القانونية لأفعاله.

ثانيا: عناصر الركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال

          جريمة تبييض الأموال جريمة عمدية يستلزم القول بوقوعها توفر القصد الجنائي العام لدى الجاني بعنصريه العلم والإرادة، فيجب أن يعلم الجاني بأن المال محل جريمة التبييض متحصلا من نشاط إجرامي أو مصدر غير مشروع ويجب أن تتجه إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للركن المادي للجريمة وأن تتحقق تلك النتيجة.

1- العلم بالمصدر غير المشروع للأموال: العلم هو حالة نفسية تعني نشوء علاقة بين أمر ما وبين النشاط الذهني للشخص، فتصبح هذه الواقعة عنصر من عناصر الخبرة الذهنية التي يختزنها الشخص، بحيث يستطيع الاستعانة بها في الحكم على الأشياء وفي تحديد طريقة تعامله مع الظروف المحيطة به[34].

          والمقصود بالعلم في نشاط تبييض الأموال ليس العلم بالقانون وإنما العلم بالوقائع باعتباره عنصر ضروري لا بد من توافره حقيقة لا افتراضا لقيام الركن المعنوي للجريمة، فالعلم بعناصر الواقعة الإجرامية هو العنصر المميز لركن القصد، وينصرف العلم إلى سائر عناصر هذه الواقعة كما يحدده القانون صراحة لا حكما[35].

        وبتطبيق ما سبق ذكره على ما جاء به المشرع الجزائري في نص المادة 02 من القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال حيث اعتبر تبييضا للأموال:

- تحويل الأموال أو نقلها، مع علم الفاعل أنها عائدات إجرامية.

- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال أو مصدرها أو مكانها أو كيفية التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها، مع علم الفاعل أنها عائدات إجرامية.

- اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها مع علم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها أنها تشكل عائدات إجرامية.

فإنه يفهم من ذلك أن علم الجاني بالمصدر غير المشروع للأموال لا يشترط أن يكون لحظة ارتكاب السلوك المادي الوارد في الحالتين المنصوص عليهما في الفقرتين (أ)، و(ب) المتمثل في النقل، أو التحويل، أو الإخفاء وبالتالي فإن جريمة تبييض الأموال من الجرائم المستمرة باعتبار أن السلوك المجرم يقبل الاستمرار ويتراخى فيه تحقق الركن المعنوي من حيث العلم بالمصدر غير المشروع للمال محل التبييض إلى وقت لاحق لتحقق الركن المادي، في حين أنها جريمة وقتية في الحالة المنصوص عليها في الفقرة (ج) باعتبار تحديد وقت علم الجاني بالمصدر غير المشروع للأموال كان من قبل المشرع بقوله "وقت تلقيها أنها عائدات إجرامية".

2- إرادة السلوك المكون لنشاط تبييض الأموال: استقر القضاء مند زمن بعيد على استبعاد وصف الجريمة إذا كان النشاط الذي قام به المتهم غير إرادي، أي لا يعبر في مواجهته عن إرادة مطلقة، أو يعبر عن إرادة غير واعية، فانتفاء إرادة النشاط المخالف للقانون يحول دون قيام الجريمة ويمنع بالتالي من عقاب المتهم، كما ينفي الوصف القانوني للجريمة ولو كان نشاط الفاعل إراديا متى ثبت أن إرادته لم تكن واعية كما في حالة السكر غير الاختياري أو التنويم المغناطيسي[36].

          وتعتبر الإرادة العنصر الثاني للقصد الجنائي المكون للركن المعنوي لجريمة تبييض الأموال، إذ لا يكفي لقيام الجريمة توافر عنصر العلم بالنشاط المجرم والنتيجة المترتبة عنه، وإنما يجب فوق ذلك أن تنصب إرادة الجاني على السلوك المكون للجريمة وعلى النتيجة المترتبة على هذا السلوك.

غير أن إثبات الإرادة ليس بالأمر السهل، حيث أن هناك صعوبات كثيرة تعوق ذلك سواء من ناحية بعض صور جريمة تبييض الأموال، أو من ناحية صعوبة التذرع ببعض الأسباب التقليدية لانتفاء أو نقصان الإرادة في ارتكاب جريمة تبييض الأموال.

 فمن ناحية إثبات الإرادة في بعض صور جريمة تبييض الأموال، فإن من هذه الصور ما هو معقد جدا خاصة تلك التي تتشكل في إيداع، أو تلقي، أو تحويل الأموال وذلك في ظل العمليات التكنولوجية المتعددة والمتنوعة، والتي تتم بها هذه الأنشطة من خلال البنوك والمؤسسات المالية.

        أما من ناحية الصعوبة التي تعرض إثبات الإرادة بسبب التذرع ببعض الأسباب التقليدية لانتفاء، أو نقصان الإرادة ليست تلك التي تتمثل في صغر السن، أو الجنون، وإنما في حالتي الإكراه والضرورة[37]، بحيث هما الحالتان اللتان يمكن أن يتذرع بهما الشخص سواء كان طبيعيا، أو معنويا في انتفاء إرادته، وإن كان لا يمكن قبول الاحتجاج بالإكراه الأدبي، أو الدفع بانعدام الإرادة الناشئ عن ضرورة طاعة أوامر الرؤساء، متى كان عدم المشروعية ظاهرا في النشاط المكون لتبييض الأموال، وهو ما يمكن استخلاصه من مجمل التعليمات واللوائح المنظمة للعمل المصرفي التي تدعو إلى ضرورة توخي اليقظة، والتأكد من هوية العملاء، والتحقق من مشروعية مصدر الأموال المطلوب إيداعها، أو تحويلها ... إذا بلغت هذه الأموال حدا معينا، أو تمت في ظروف مثيرة للشبهات[38].

          خلاصة القول أن القصد الجنائي لا يتحقق في جريمة تبييض الأموال طالما لم تتجه إرادة الفاعل الحرة والواعية إلى ارتكاب إحدى صور السلوك في الجريمة، تم تحقيق النتيجة، فضلا عن علم الفاعل بالمصدر غير المشروع للأموال محل التبييض

الخاتمة:

لقد أفضت بنا هذه الدراسة إلى رصد مجموعة من النتائج والملاحظات نتناولها كالتالي:

1- عرف المشرع الجزائري جريمة تبييض الأموال من خلال ذكر الأفعال التي تشكل السلوك المادي لهذه الجريمة، ويرجع السبب في ذلك لعدم توصل الاتفاقيات الدولية والإقليمية إلى إيجاد تعريف جامع ليكون بمثابة مرجع يعتمد عليه في تعريف جريمة تبييض الأموال على مستوى التشريعات الوطنية.

2- تبنى المشرع الجزائري للمفهوم الواسع لجريمة تبييض الأموال، حيث لم يحصر نشاطات هذه الجريمة في الاتجار غير المشروع  بالمخدرات كما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1988، وإنما جرم تبييض عائدات كل جناية أو جنحة، وحسنا فعل المشرع الجزائري لأنه من شأن عدم تحديد الجرائم التي تشكل عائداتها مصدرا لنشاط التبييض على سبيل الحصر أن يمنع المجرمين من الإفلات من العقاب القانوني على أفعالهم، بسبب ارتكابهم لنشاط تبييض عوائد جرائم لم ينص عليها القانون.

3- تعتبر جريمة تبييض الأموال بحسب المشرع الجزائري من الجرائم التي تتطلب العلم بالمصدر غير المشروع للأموال محل التبييض، وهو ما نصت عليه الفقرة "ج" من المادة الثانية من القانون 05/01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، لذلك نرى ضرورة توسيع تجريم سلوك تبييض الأموال ليشمل حالة الخطأ غير المتعمد، وذلك بسبب تقاعس موظفي البنوك والمؤسسات المالية في التحري عن العمليات المالية المشبوهة التي يحتمل ارتباطها بأنشطة بتبييض الأموال، لأن اعتبار جريمة تبييض الأموال جريمة عمدية يتعارض مع الجهود الرامية إلى مكافحتها، ويؤدي في نفس الوقت إلى إفلات الكثير من حالات تبييض الأموال من العقاب.



[1] أنظر:

- المرسوم الرئاسي 95/41 المؤرخ في 28 يناير 1995 المتضمن المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية.

- المرسوم الرئاسي 02/55 المؤرخ في 05 فيفري 2002، المتضمن المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية.

- المرسوم الرئاسي 04/128 المؤرخ في 08 ديسمبر 2004، المتضمن المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

[2] القانون 05/01 المؤرخ في 06 فبراير 2005 المتضمن قانون الوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما، المعدل والمتمم بالأمر 12/02 المؤرخ في 13 يناير 2012.

 حمدي عبد العظيم، غسيل الأموال في مصر والعالم، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة،1997، ص: 5.[3]

   المادة 3/ب من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1988.[4]

  المادة 9 من اتفاقية المجلس الأوروبي بشأن مصادرة العائدات المحصلة من تبييض الأموال لسنة 1990.[5]

 خالد سليمان، جريمة تبييض الأموال جريمة بلا حدود، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، 2004، ص20.[6]

 المادة 2/أ من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية.[7]

 المادة 2 من القانون 05/01، مرجع سابق.[8]

 المادة 1 من القانون رقم 80 لسنة 2002 المؤرخ في 22 مايو 2002 المتضمن أحكام قانون مكافحة غسل الأموال.[9]

 المادة 324 من القانون 96/392 المعدل لقانون العقوبات الفرنسي.[10]

 رمسيس بهمام، النظرية العامة للقانون الجنائي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1997، ص479.[11]

 مأمون محمد سلامة، قانون العقوبات: القسم العام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984، ص109.[12]

 عبد القادر عدو، مبادئ قانون العقوبات الجزائري، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الثانية، 20132، ص30.[13]

 سليمان عبد المنعم، النظرية العامة لقانون العقوبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2000، ص218.[14]

 أمجد سعود الخريشة، جريمة غسل الأموال: دراسة مقارنة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2006، ص95.[15]

 إبراهيم طنطاوي، المواجهة التشريعية لغسيل الأموال في مصر، دار النهضة العربية، القاهرة، 2003، ص57.[16]

 دليلة مباركي، غسيل الأموال، رسالة دكتوراه في الحقوق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الحاج لخضر باتنة، الجزائر، 2007/2008، ص179.[17]

 عبد الله محمد الحلو، الجهود الدولية والعربية لمكافحة تبييض الأموال، منشورات الحلبي الحقوقي، بيروت، 2007، ص: 35.[18]

 عبد الله بن جهيم، غسل الأموال في المملكة العربية السعودية، مكتبة الاقتصاد والقانون، الرياض، 2010، ص122-123.[19]

 خالد حامد مصطفى، جريمة غسل الأموال: دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه في الحقوق، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 2008، ص271.[20]

 يوسف حسن يوسف، الجريمة المنظمة الدولية والإرهاب الدولي، القومي للإصدارات القانونية، مصر، الطبعة الأولى، 2010، ص16.[21]

 عبد المنعم سليمان، مسؤولية المصرف الجنائية عن الأموال غير النظيفة: ظاهرة غسل الأموال، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 1999، ص116. [22]

  عبد الله أوهايبية، شرح قانون العقوبات الجزائري، موفم للنشر، الجزائر، 2011، ص230-231.[23]

 المادة 2/أ من القانون 05/01، مرجع سابق.[24]

 المادة 2/ب من نفس القانون.[25]

 عبد الله سليمان، شرح قانون العقوبات الجزائري: القسم العام، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2016، ص152.[26]

 عبد الله أوهايبية، مرجع سابق، ص233.[27]

 عبد الله محمد الحلو، مرجع سابق، ص36.[28]

 أمجد سعود الخريشة، مرجع سابق، ص112.[29]

[30]  Beatrice GENINET, L’indispensable du Droit pénal, Studyrama, France, 2eme édition, p50.

عبد القادر عدو، مرجع سابق، ص237.  [31]

  منيف نايف الدليمي، غسيل الأموال فقي القانون الجنائي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2006، ص152.[32]

[33] يتمثل القصد الجنائي العام لجريمة تبييض الأموال في علم الجاني بأن المال موضوع التبييض متحصل من نشاط إجرامي أو مصدر غير مشروع.   

 سليمان عبد الفتاح، مكافحة غسل الأموال، دار الكتب القانونية، مصر، 2005، ص65.[34]

 عبد المنعم سليمان، مرجع سابق، ص151.[35]

  منيف نايف الدليمي، مرجع سابق، ص162.[36]

[37] يعتبر الإكراه وحالة الضرورة من موانع المسؤولية الراجعة إلى انعدام الاختيار، فقد يتوافر لدى الشخص فاعل الجريمة قوة الوعي والتمييز ورغم ذلك تنعدم لديه القدرة على الاختيار، أي تنعدم إرادته. أنظر: محمد عوض محمد، سليمان عبد المنعم، مرجع سابق، ص350 وما بعدها.

[38] مصطفى طاهر، المواجهة التشريعية لظاهرة غسل الأموال المتحصلة من جرائم المخدرات، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 2002، ص113.

إرسال تعليق

0 تعليقات