آخر الأخبار

Advertisement

قاعدة الإثبات مقدم على النفي في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي - الدكتور عبد الله البـدري، العدد 45 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث - تقديم ذ محمد القاسمي


  قاعدة الإثبات مقدم على النفي في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي - الدكتور عبد الله البـدري، العدد 45 من مجلة الباحث، منشورات موقع الباحث - تقديم ذ محمد القاسمي


رابط تحميل العدد المتضمن للمقال بصيغته الرقمية pdf  الرابط أذناه:




الدكتور عبد الله البــــدري

  دكتوراه في الشريعة جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الشريعة بفاس

   منتدب قضائي بالمحكمة الابتدائية بالعرائش

قاعدة الإثبات مقدم على النفي في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي

Evidence takes precedence over denial in Islamic Fikh and The Moroccan Legislation

 


    تقديم:

 يعتبر موضوع الإثبات من أهم وأدق المسائل التي تواجه القاضي، وهو يؤدي وظيفة الفصل في الخصومات وتحقيق العدالة؛ إذ إن قواعد الإثبات تهدف عموما إلى كشف الحقيقة التي تتجسد في مظهرها النهائي في الحكم الذي يصدره القاضي في الدعوى المعروضة عليه، ذلك أن الحق موضوع التقاضي، يتجرد من كل قيمة إذا لم يقم الدليل على الحادث الذي يستند إليه، فالدليل هو قوام حياته ومعقد النفع فيه، حتى صدق القول بأن الحق مجردا من دليله يصبح عند المنازعة هو والعدم سواء.

 وغالبا ما يطرأ التعارض والتقابل بين الدليلين على وجه اشتمال كل واحد منهما على ما ينافي الآخر، بحيث لو انفرد أحدهما؛ لحُكِم به. وعندئذ يتم اللجوء إلى الترجيح بين الأدلة المتعارضة والمتقابلة، وذلك بتقوية أحدها للعمل به وطرح الآخر.

    ومن المرجحات التي يعوّل عليها الفقه والقانون والقضاء: قاعدة الإثبات مقدم على النفي. فالمثبت للحكم هو الذي يثبت أمرا عارضا لم يكن ثابتا فيما مضى، أو هو الذي يقرر حكما زائدا عن الأصل. والنّافي للحكم: هو الذي ينفي الأمر الزائد أو يبقي الأصل على ما كان عليه.

    وقد اقتضى النظر في هذا المقال نظم الكلام في مبحثين: المبحث الأول: قاعدة الإثبات مقدم على النفي في الفقه الإسلامي. المبحث الثاني: قاعدة الإثبات مقدم على النفي في التشريع المغربي.

    المبحث الأول: قاعدة الإثبات مقدم على النفي في الفقه الإسلامي

    اختلف أهل المذاهب الفقهية في العمل بهذه القاعدة على ثلاثة أقوال، وهو خلاف معروف في كتب الأصول وغيرها، حكاه الزيلعي وغيره.

    القول الأول: يقدم المثبت على النّافي عند التّعارض، لأن المثبت يشتمل على زيادة علم قد قصّر عنها النّافي، وهو قول جمهور العلماء.

    قال الزيلعي: الأكثرون على تقديم الإثبات، وقالوا: لأن المثبت معه زيادة علم، وأيضا فالنفي يفيد التأكيد لدليل الأصل، والإثبات يفيد التأسيس، والتأسيس أولى.[1]

    واعتبر الزركشي أن الصحيح في هذه المسألة: تقديم المثبت على النافي. ونقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء؛ لأن معه زيادة علم.[2]

    وقال ابن حجر: المثبت مقدم على النافي، وهو وفاق من أهل العلم إلا من شذ.[3]

    كما رجح ابن عبد البر المثبت على النافي عند التعارض فقال: والواجب أن تؤخذ شهادة من أثبت علما دون من نفاه... وقال: لأن من نفى شيئا وأثبته غيره لم يعدّ شاهدا، وإنما الشاهد المثبت لا النّافي. وهذا أصل من أصول الفقه في الشّهادات إذا تعارضت.[4] وأضاف: وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم.[5]

    القول الثاني: رجّح النّافي على المثبت عند التعارض، لأن المثبت وإن كان مترجَّحا على النافي لاشتماله على زيادة علم، غير أن النافي لو قدّرنا تقدّمه على المثبت كانت فائدته التّأكيد، ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التّأسيس، وفائدة التّأسيس أولى لما سبق تقريره، فكان القضاء بتأخيره أولى. قاله الآمدي.[6]

    القول الثالث: ذهب قوم من الأصوليين إلى اعتبار المثبت والنافي سواء؛ لاحتمال وقوعهما في حالين. وقالوا بالتوقف عن ترجيح أحدهما على الآخر ويطلب الترجيح بمرجح آخر، ولأن المثبت معتضد بزيادة العلم، والنافي معتضد بموافقة الأصل. ومن جهة أخرى؛ فالمثبت فائدته التأسيس لحكم زائد، والنافي فائدته التأسيس لحكم العدم... فلما تساويا في المرجحات تعارضا، وطلب الترجيح من دليل آخر. وهذا ما اختاره الغزالي في المستصفى.[7]

    واستثنى بعض أصحاب هذا القول حالات يمنع فيها ترجيح المثبت على النافي، منها: أن يصحب نفي النافي تفصيلا يكون دليلا على أن المثبت ليس معه زيادة علم، أو أن النافي هو الذي معه زيادة علم. قال ابن حجر: إن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه؛ فيقدم.[8] 

    وقال إلكيا وابن عبد السلام ما حاصله: إن كان النافي قد استند إلى العلم؛ فهو مقدم على المثبت. وقال النووي: النفي المحصور والإثبات سيان.[9]

    وقال ابن الملقن: إن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد ولم تكن محصورة، أما ما أحاط به علمه وكان محصورا؛ فيقبل بالاتفاق.[10]

    وقال الزركشي: لما كان النافي ما يتعلق به في أمر يقرب من المحصور بمقتضى الغالب، اقتضى أن يرجح النافي.[11]

    واعتبر الشنقيطي أن: الظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان... فيطلب الترجيح من جهة أخرى، والله أعلم. وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقا، ومن قدم النافي مطلقا، ووجه تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور[12].

    ومن تلك الحالات أيضا: أن يكون النافي أعلم من المثبت؛ كأن يكون أعلم منه في المسألة المختلف فيها خاصة أو في الباب الذي تندرج تحته هذه المسألة أو في العلم الذي تنتمي له هذه المسألة. قال الزركشي: أن يكون راوي النفي له عناية به؛ فيقدم على الإثبات.[13]

    وفي باب الحدود الشرعية، فإن الذي عليه أكثر الأصوليين أن الخبر النافي الحد مقدم على الموجب له؛ لما في الخبر النافي للحد من اليسر ورفع الحرج، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وتعارض الأدلّة في وجوبه وسقوطه شبهة يدرأ بها الحد، ولأن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل، والنافي له على وفق الأصل، فيكون النافي له راجحا. والتعزير كالحد.[14]

    والرأي الراجح الظاهر من الآراء: أنّ المثبت مقدّم على النّافي لقوّة ما استدلّ به الجمهور، ولأنّ المثبت لما ادعى أمرا وأثبته، فإن ذلك دليل على تحققه، وإن النافي لما قصر عنه ونفاه، فإن ذلك دليل على خفائه عنه وعدم اطلاعه عليه، لأنّ السهو والغفلة لا يسلم منهما إنسان.

    وقد نص فقهاء المالكية على تقديم الجمع على الترجيح صراحة، بحيث لا يصار إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع بينها، فالجمع عندهم أحسن من الترجيح،[15] لأن الترجيح إلغاء كلام صاحب الشرع، ولا سبيل إلى تركه مع إمكان استعماله.[16]

    قال الشيخ خليل: وإن أمكن جمع بين البينتين جمع؛ وإلا رجح.[17]

    كما قدم الحنابلة الجمع على الترجيح، ففي المدخل: والصواب تقديم الجمع على الترجيح ما أمكن؛ إلا أن يفضي الجمع إلى تكلف يغلب على الظن براءة الشرع منه ويبعد أنه قصده؛ فيتعين الترجيح ابتداء.[18] ولأن البينات حجج الشرع في الإثبات، فيجب العمل بها بحسب الإمكان، ولا يجوز إهدارها ولا تهاترها.[19]

    وقد تبنى المشرع هذا الرأي الفقهي، وهو ما يستشف من خلال قراءة م. 3 من (م ح ع) التي جاء فيها: إذا تعارضت البينات المدلى بها لإثبات ملكية عقار أو حق عيني على عقار، وكان الجمع بينهما غير ممكن، فإنه يعمل بقواعد الترجيح بين الأدلة.

    وهو التوجه الذي كان قد كرسه القضاء في العديد من القرارات، منها ما جاء في قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) أن: التعارض الذي يوجب الالتجاء إلى المرجحات هو الذي لا يمكن معه الجمع بين الحجتين.[20]

    وفي قرار آخر له أكد أنه: لا يقضى بسقوط البينتين إلا إذا تعادلتا، وتعذر ترجيح إحداهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح الشرعية.[21]

    وقضى في قرار مماثل أنه: إن كانت الإراثتان ناقصتين، فإنه يتم الجمع بينهما ما لم يتعارضا، لقول الفقهاء: وإن أمكن الجمع فاجمع.[22]

    وذهب جمهور الأحناف إلى تقديم الترجيح على الجمع عند تعارض البينتين.[23] 

    قال الكاساني: الأصل أن البينتين إذا تعارضتا من حيث الظاهر، فإن أمكن ترجيح إحداهما على الأخرى يعمل بالراجح؛ لأن البينة حجة من حجج الشرع، والراجح ملحق بالمتيقن في أحكام الشرع. وإن تعذر الترجيح، فإن أمكن العمل بكل واحدة منهما من كل وجهه وجب العمل به، وإن تعذر العمل بهما من كل وجه وأمكن العمل بهما من وجه وجب العمل بهما؛ لأن العمل بالدليلين واجب بقدر الإمكان، وإن تعذر العمل بهما أصلا سقط اعتبارهما والتحقا بالعدم، إذ  لا حجة مع المعارضة، كما لا حجة مع المناقضة.[24]

    وأصح الآراء في المذهب الشافعي تقديم التهاتر[25]على الجمع لا الترجيح، بحيث إذا تعارضت البينتان، ولم يمكن العمل بهما معا، وتعذَّر ترجيح إحداهما؛ فإنهما تتهاتران وتسقطان ولا ينتظم استعمالهما، ولم تقم بينة على وفق مراد مقيمها وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بينة.[26]

    والأصل في العمل بالترجيح، أخذ الناس بشهادة بلال ض الذي روى أن النبي ص صلى في الكعبة على رواية الفضل بن عباس ض أنه لم يصلّ.[27]

    والترجيح بين الحجج لا يكون إلا في الحجج المتساوية في القوة الثبوتية. أما إذا كانت إحدى هذه الحجج ناقصة عن درجة الاعتبار فلا يلجأ إلى الترجيح. وهو ما قضى به المجلس الأعلى في أحد قراراته، حيث جاء فيه: لا يعمل بالترجيح إلا إذا تساوت حجة البينات.[28]

    ومن مشهورات مسائل هذه القاعدة في التراث الفقهي: مسألة إثبات الحوز ونفيه في التبرعات.

    ففي نوازل ابن سهل: أفتى أبو مروان بن مالك في هبة اختلف الشهود فيها، فبعضهم شهد بحوزها، وبعضهم شهد بأنها لم تحز بأن الشهادة بصحة الحوز أعمل؛ لأن الشهادة بالحوز أثبتت الهبة بصحتها، فكانت أولى من التي شهدت ببطلانها.[29]

    كما أورد الونشريسي فتوى مفادها أن: من أثبت شيئا أولى ممن نفاه، هذا الذي تقرر في مذهب مالك وأصحابه، وبه قال حذاقهم، وعليه درج ناظم الزقاقية.[30] قال الزقاق: «وَمُثْبِتٌ أَوْلَى مِنَ الَّذِي نَفَى».[31]

 

 

    المبحث الثاني: قاعدة الإثبات مقدم على النفي في التشريع المغربي  

    تعتبر مسألة إثبات الحوز ونفيه في المنازعات التبرعية العقارية من المسائل المشهورة المعروضة أمام القضاء. والمتتبع للعمل القضائي يجد أنه قد ساير الفقه الإسلامي، حين اعتبر الحوز شرط صحة في التبرعات قبل حصول المانع. وهو ما أكده في العديد من القضايا، فقد جاء في قرار لمحكمة النقض أن: «حيازة المتصدِّق للمتصدَّق به شرط أساسي لصحة الصدقة، وأن هذه الحيازة يجب أن تتمثل في إخلاء المتصدِّق للسكنى منه، ومن أمتعته. كما قال المتحف:

وإن يكن موضع سكناه يهب * فإن الإخلاء له حكم و جب».[32]

    وفي قرار آخر لها أكدت على انه: «لئن كانت الصدقة تنعقد بالإيجاب والقبول، فإنها لا تصح إلا بالحوز الفعلي أو القانوني في حياة المتصدِّق وصحته وكمال أهليته وعدم إحاطه الدَّين بماله».[33]

    وإذا كانت الحيازة شرطا في صحة التبرعات، وكان الأصل في الحوز معاينة محرّري العقد حوز العين وإخلائها من شواغل المتبرع وحوائجه، لأن معاينة البينة هي الأصل، فإنه من المقرر قانونا وقضاءً أن تقييدالعقار المتبرع به بالسجلات العقارية في حياة المتبرع وقبل حصول المانع يعتبر حيازة قانونية، تغني عن الإشهاد بمعاينة الحيازة الفعلية وإثباتها.

    وتعتبر عملية التقييد في الرسم العقاري نقلا للملكية والحيازة من ذمة المعطي ويده إلى المعطى له، وتمكينه من التصرف دون منازع. وهو ما يحقق غاية الفقه من الحيازة، لأن علة الحوز، وهي سد الذريعة ومنع التحايل، تتحقق مع قواعد التحفيظ.

    وهذا ما جاء في م. 274 من (م ح ع) أنه: «يغني التقييد بالسجلات العقارية عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب وعن إخلائه من طرف الواهب إذا كان محفظا أو في طور التحفيظ. فإذا كان غير محفظ فإن إدراج مطلب لتحفيظه يغني عن حيازته الفعلية وعن إخلائه».

    وقد سبق للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) أن أكد ذلك في أحد قراراته، حيث جاء فيه: «إن تسجيل عقد الهبة بالرسم العقاري قيد حياة الواهب، يعد حيازة قانونية تغني عن إشهاد العدلين بمعاينة الحوز».[34]

       وإثبات الحوز ليس قاصرًا على معاينة محرري العقد له، وإنما يمكن إثباته بكل وسائل الإثبات الأخرى، بما فيها القرائن؛ كقبض الكراء ورفع الدعاوى على المكترين وأداء الضرائب عن العقار موضوع العطية.  لقول صاحب العمل المطلق:

وَعَنْ مُعَايَنَةٍ حَوْزٌ يَكْفِي * عَقْدُ كِرَاءٍ وَنَحْوِهِ فِي الوَقْفِ[35]

       وقد أوضحت محكمة النقض في أحد قراراتها معنى الحوز الفعلي للعقار موضوع الصدقة، حيث جاء فيه: «إن الحوز الفعلي المعتبر في التبرع، هو وضع اليد على الشيء المتبرع به، أو الانتفاع به، أو التصرف فيه قبل حدوث المانع».[36]

     غير أن الإشهاد بمعاينة الحوز، لا يمكن أن يناهض بلفيف مستنده المخالطة والمجاورة وشدة الاطلاع لنفي هذا الحوز، لأن الشهادة المثبتة للحوز مقدمة على الشهادة النافية له. ولأن الأولى موجبة لحق ومثمرة لحكم، والثانية نافية له. والثابت مقدم على النافي؛ لعدم تكافئهما، لأنه علم ما لم يعلمه الآخر. ولأن المثبت عنده زيادة علم ليست عند النافي، ومن عرف الشيء وعلمه حجة على ما لم يعلمه، ولأن عدم العلم بالشيء لا يكون حجة تدفع به الحجة الثابتة التي علمت. فالحيازة الثابتة لا يبطلها إلا الناقل المحقق.

    ويعتبر تقديم بينة الإثبات على بينة النفي من المرجحات التي نص عليها المشرع في م. 3 من (م ح ع)، وصدر عن المجلس الأعلى مجموعة من القرارات أكد فيها هذه القاعدة، منها:

    من الثابت فقها أن المثبت مقدم على النافي؛ لأنه علم ما لم يعلمه الآخر، فاتضح أنه لا تعرض بين العدلية الشاهدة بالحوز معاينة وتطوفا، وبين اللفيفية الشاهدة بنفيه؛ لعدم تكافئهما، وبذلك يتعين الأخذ بالشهادة المثبة للحوز؛ لأن الأصل فيها الاستصحاب الذي هو في الشرع أصل من الأصول المتبعة، وإنما يبطله ما يطرأ عليه من احداث ناقلة عنه ثايت الحدوث مستحق الوقوع، كما قال الشيخ خليل: وبنقل على مستصحبة، ولا ناقل هنا أصلا.[37]

    إن رسم الصدقة الذي شهد عدلاه بحيازة المتصدق عليه للمتصدق به معاينة وطوافا لا يمكن أن يناهض بحجة معارضه لنفي الحيازة لكون الحجة المثبتة مقدمة على النافية.[38]

    ترجح لفيفية الحوز على لفيفية النافي لها، لأن الشهادة المثبتة للحوز مقدمة على الشهادة النافية له، والبينة الموجبة لحق والمثمرة لحكم أولى من البينة النافية له، وأن من أثبت شيئا أولى ممن نفاه.[39]

    لا يمكن أن يناهض باللفيف لنفي حيازة المتصدق به ما شهد به العدلان لحيازة المتصدق عليه للمتصدق به معاينة وطوافا، إن المثبت مقدم على النافي؛ لأنه علم ما لم يعلمه الآخر.[40]

    وفي هذا السياق، وفي قضايا ذات الصلة، قضت محكمة الاستئناف الشرعي الأعلى بأن: شهادة اللفيف الشاهد بالغيبة ليست عاملة لكونها نافية، ولأن شهادة حضوره بيد المدعى عليه مثبتة، والمثبت مقدم على النافي.[41]

    وفي حكم آخر صادر عن المحكمة نفسها، جاء فيه: إن ادعى مدع الاشتراك في ملكه وأثبته، ونفى خصمه الاشتراك وأثبت النفي، وتساوت الحجتان، رجحت المثبتة على النافية.[42]

    كما قضى في قرار آخر له استخلصت منه قاعدة أن: بما أن كل واحد من الطرفين قد أدلى بحجة لمحاولة إثبات ادعائه من إثبات واقعة القسمة أو نفيها، تكون الحجة التي تشهد بوقوع القسمة هي المثبتة.[43]

    وأكد في أحد قراراته أن: الشهادة بالعلم بوارث لا تتعارض مع الشهادة بعدم العلم، لما هو مقرر من أن من علم هوحجة على من لم يعلم.[44]

    وقضى في قرار آخر أن: المحكمة التي رجحت الإراثة المثبتة للفرع الوارث على الإراثة النافية لذلك، تكون قد طبقت تطبيقا صحيحا للقاعدة الفقهية (المثبت مقدم على النافي)، حسبما نص عليه الزقاق في لاميته: (ومثبت أولى من الذي نفى)، وأبو يحيى الولاتي صاحب المراقي السعود: والأصل ترجيح لمثبت على ذي النفي إن في منكر تقابال).[45]

    وتجدر الإشارة أن هذه القاعدة تجد أساسها في الميدان المدني. أما قواعد الإثبات الجنائي، فلا تقبل هذه الأرجحية، حيث تطبق حرية تقدير أدلة الإثبات وتكوين الاقتناع الوجداني للقاضي. ولا رقابة عليه في ذلك من محكمة أعلى درجة؛ إلا في جانب التعليل وتبيان كيفية استخلاص قناعته. وهو ما نصت م. 286 من (ق م ج) على أنه: «يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم...».

    الأمر الذي أكده قرار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) في أحد قراراته، حيث جاء فيه: «قاعدة وجوب تقديم شهادة الإثبات على شهادة النفي تجد سندها في المجال المدني، أما في المجال الجنائي؛ فالمبدأ هو حرية القاضي في تكوين قناعته، والحكم وفق اقتناعه الصميم».[46]

 


 

    خــاتمــــة

   تعتبر قاعدة المثبت مقدم على النافي من المرجحات التي يلجأ إليها عند تعذر الجمع بين الأدلة المتعارضة، ذلك أن الثابت موجب لحق ومثمر لحُكم، والنافي نافٍ له، ولأن المثبت عنده زيادة علم ليست عند النافي، ومن عرف الشيء وعلمه حجة على ما لم يعلمه، ولأن عدم العلم بالشيء لا يكون حجة تدفع به الحجة الثابتة التي علمت، مع بعض الاستثناءات التي أوردها أهل العلم.

    وتجد هذه القاعدة سندها في المجال المدني، أما في المجال الجنائي؛ فالمبدأ هو حرية القاضي في تكوين قناعته، والحكم وفق اقتناعه الصميم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    المصادر والمراجــع المعتمدة

-              صحيح البخاري.

-              فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ

-              الاستذكار لابن عبد البر، ت. سالم عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 2000.

-              التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد من حديث رسول الله، له أيضا، ت. بشار معروف، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ط: 1، 2017.

-              نصب الراية للزيلعي نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، ت. محمد عوامة، مؤسسة الريان، بيروت، ط: 1، 1997.

-              بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد، تحقيق: محمد حلاق، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط1، 1415هـ.

-              مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها للرجراجي، تحقيق: أبو الفضل الدمياطي، دار  ابن  حزم، بيروت، ط1، 2007.

-              مختصر خليل: دار الفكر، بيروت، طبعة 1995.

-              ديوان الأحكام الكبرى أو الإعلام بنوازل الأحكام وقطر من سير الحكام لابن سهل، ت. يحيى مراد، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2007.

-              المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والمغرب للونشريسي، ت. محمد عثمان، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة 2011.

-              شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب للمنجور، ت. محمد الأمين، دار عبد الله الشنقيطي.

-              بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2، 1986.

-              نهاية المطلب في دراية المذهب للجويني، ت. عبد العظيم الديب، دار المنهاج، ط: 1، 2007.

-              الاعتصام للشاطبي، ت. أبو عبيدة مشهور، الدار الأثرية، عَمّان، ط2، 2007.

-              البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، دار الكتبي، ط: 1، 1994.

-              المستصفى للغزالي، ت. محمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1993.

-              التقرير والتحبير لابن الهمام والتقرير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2، 1983.

-              البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن، ت. مصطفى أبو الغيط، دار الهجرة، الرياض، ط: 1.

-              النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي، ت. زين العابدين بلا فريج، أضواء السلف، الرياض، ط: 1، 1998.

-              الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، المكتب الإسلامي، دمشق- بيروت، ط: 2، 1402هـ.

-              المحصول للرازي، ت. طه العلواني، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1997.

-              الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي وولده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1984.

-              المدخل لمذهب الإمام أحمد: لابن بدران، ت. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 2، 1401هـ.

-              مذكر أصول الفقه على روضة الناظر لمحمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم، الرياض، ط: 5، 2019.

-              موسوعة القواعد والضوابط للندوي، دار القلم، دمشق، ط: 2، 1412هـ..

-              تاج العروس للزبيدي.

-              التشريع العقاري والضمانات لعبد العزيز توفيق.

-              الترجيح بين البينات والحجج في  قضاء محكمة النقض لعمر أزوكار.

-              مجلة مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى، عدد 1.

-              مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 39 و55.

-              مجلة المحاكم المغربية، عدد 32، 135 و136.

-              المجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، عدد 10.



 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، ت. محمد عوامة، مؤسسة الريان، بيروت، ط: 1، 1997، 1/360.[1]

.198/8  البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي، دار الكتبي، ط: 1، 1994:[2]

فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، 5/251. [3]

الاستذكار لابن عبد البر، ت. سالم عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 2000،  4/322. [4]  

[5] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عبد البر، ت. بشار معروف، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ط: 1، 2017، 2/159.

 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، المكتب الإسلامي، دمشق- بيروت، ط: 2، 1402هـ، 4/261.[6]

[7] المستصفى للغزالي، ت. محمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1993، 378.

الفتح: 1/27. [8]

[9] البحر المحيط: 8/199، والتقرير والتحبير لابن الهمام والتقرير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2، 1983، 3/24.

[10] البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير لابن الملقن، ت. مصطفى أبو الغيط، دار الهجرة، الرياض، ط: 1، 2004، 5/249.

[11] النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي، ت. زين العابدين بلا فريج، أضواء السلف، الرياض، ط: 1، 1998، 3/412.

[12] مذكر أصول الفقه على روضة الناظر لمحمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم، الرياض، ط: 5، 2019، ص: 508.

[13]  البحر المحيط: 8/.200.

[14] انظر: المحصول للرازي، ت. طه العلواني، مؤسسة الرسالة، ط: 3، 1997، 5/441، والبحر المحيط للزركشي: 8/.200، والإبهاج في شرح المنهاج للسبكي وولده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1984، 3/236، والتقرير والتحبير لابن الهمام، 3/24، مذكر أصول الفقه للشنقيطي: 510.

[15] بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد، تحقيق: محمد حلاق، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط1، 1415ه، 3/310.  ومثلها وردت عند الشاطبي في الاعتصام: (2/56) بلفظ: إعمال الدلالة أولى من إهمال بعضها. وفي الفتح لابنِ حجر (9/474) بلفظ: الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول.

[16] مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها: أبو الحسن الرجراجي، تحقيق: أبو الفضل الدمياطي، دار  ابن  حزم، بيروت، ط1، 2007، 6/313.

[17] مختصر خليل: دار الفكر، بيروت، طبعة 1995، ص: 227.

[18] المدخل لمذهب الإمام أحمد: لابن بدران، ت. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 2، 1401هـ، ص: 369.

[19] انظر: موسوعة القواعد والضوابط للندوي، دار القلم، دمشق، ط: 2، 1412هـ.، ص: 111.

[20] قرار عدد 148، الصادر بتاريخ 11 مارس 1975، في الملف الشرعي عدد 43203. منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد 32، ص: 38.

[21] قرار عدد 7079، الصادر بتاريخ 24 نونبر 1998، في الملف المدني عدد 4304/1/1/95. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 55، ص: 33.

[22] قرار عدد 1، الصادر بتاريخ 07 يناير 2014، في الملف الشرعي عدد 198/2/1/12. منشور بالمجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، عدد 10، ص: 278.

 المحصول: للرازي: 5/531. [23]  

 [24]بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2، 1986، 6/232.

[25] تهاتر البينات: سقوطها وبطلانها. انظر: تاج العروس، مادة: (هتر).

 نهاية المطلب في دراية المذهب للجويني، ت. عبد العظيم الديب، دار المنهاج، ط: 1، 2007، 7/414 و8/550.[26]

صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك. يحكم بقول من شهد. [27]

[28] انظر: قرار عدد 1720، الصادر بتاريخ 03 يوليوز 1973، في الملف الشرعي عدد 2665/82. منشور بكتاب التشريع العقاري والضمانات لعبد العزيز توفيق، ص: 171. والقرار عدد 667، الصادر بتاريخ 10 أكتوبر 2010، في الملف المدني عدد 1205/1/1/08. منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد 135 و136، ص: 164.

[29] ديوان الأحكام الكبرى أو الإعلام بنوازل الأحكام وقطر من سير الحكام لابن سهل، ت. يحيى مراد، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2007، ص: 401.

3 المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والمغرب للونشريسي، ت. محمد عثمان، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة 2011، 5/600.

 

[31] شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب للمنجور، ت. محمد الأمين، دار عبد الله الشنقيطي، ص: 531.

 

 [32]قرار عدد: 343، الصادر بتاريخ 19 أبريل 2016، في الملف المدني عدد: 971/2/2/15

 [33]قرار عدد: 106، الصادر بتاريخ 11 فبراير 2014، في الملف الشرعي عدد: 282/2/1/2013.

[34] قرار عدد: 163، الصادر بتاريخ 12 أبريل 2011، في الملف الشرعي عدد:  584/2/1/9.

قرار عدد: 200، الصادر بتاريخ 13 مارس 2012، في الملف الشرعي عدد: 675/2/6/10. [35]

[36] قرار عدد: 318، الصادر بتاريخ 16 أبريل 2013، في الملف الشرعي عدد: 304/2/1/11.

[37] قرار عدد: 949، الصادر بتاريخ 13 يونيو 1989، في الملف الشرعي عدد 4438/84. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 45 لسنة 1991، ص: 66.

[38] قرار عدد 368، الصادر بتاريخ 15 ماي 2002، في الملف المدني عدد 374/2/1/99. منشور بكتاب الترجيح بين البينات والحجج في  قضاء محكمة النقض لعمر أزوكار، ص: 135.

[39] قرار عدد 584، الصادر بتاريخ 11 أكتوبر 2006، في الملف الشرعي عدد 270/2/1/06. منشور بكتاب الترجيح بين البينات والحجج في قضاء محكمة النقض لعمر أزوكار، ص: 157.

[40] قرار عدد 1575، الصادر بتاريخ 23 أبريل 2008، في الملف المدني عدد 3075/1/1/06. منشور بكتاب الترجيح بين البينات والحجج في قضاء محكمة النقض لعمر أزوكار، ص: 64.

[41] حكم عدد 105، الصادر بتاريخ 05 رجب 1343هـ، في القضية رقم 741. منشور بمجلة مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى: 1/393.

حكم عدد 174، الصادر بتاريخ 25 ربيع الأول 1345هـ، في القضية. منشور بمجلة مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى: 1/687. [42]

[43] قرار عدد 1392، الصادر بتاريخ 05 يونيو 1985، في الملف المدني عدد 719. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 39 لسنة 1986، ص: 33.

[44] قرار عدد 148، الصادر بتاريخ 11 مارس 1975، في الملف الشرعي عدد 43203. منشور بمجلة المحاكم المغربية، عدد 32، ص: 38.

[45] قرار عدد 29، الصادر بتاريخ 20 يناير 2010، في الملف المدني عدد 211/2/1/08. منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 72، ص: 79.

قرار عدد: 80 الصادر بتاريخ  09 يناير 2005 في الملف المدني عدد: 23297/04.  [46]

إرسال تعليق

0 تعليقات